مكتومو القيد في طرابلس: رهائن حياة مؤجّلة

عن محمد، الممنوع من الحب والعمل والسفر، ورحلة بحثه الشاقة لاستعادة الجنسية، وعن عبدالله الذي ليس له سوى البحر بعدما فشلت كل محاولاته، وعن ليلى المحرومة من حقّ الاستشفاء.. وعن قمر: الفتاة التي اغتصبت في طريقها للحصول على الهويّة!

دعاء السباهي

عن محمد وحياته المعلقّة على باب المحكمة

محمد، شاب في أواخر العشرينيّات من عمره، لا يحمل أي جنسيّة، ما جعل حياته العمليّة والعاطفيّة رهينة بانتظار الحصول على هويّة.

-1-

بعد انتظار طويل وممل، عادت والدتي إلى المنزل وبيدها ظرف ورقيّ. ارتسمت ابتسامةٌ على وجهها وبدت سعيدة، لكنّها لم تخبرني وإخوتي بما يحويه الظرف. اكتفت بالقول إنّ فيه مفاجأة ستسعدني وإن لم تكن مرتبطةً مباشرة بي. في البداية، ظننت أنّها صورة “إيكو” لطفلٍ آخر ستنجبه وسأتولى أنا تربيته كالعادة، ثمّ خطر لي أنّها ربّما جاءت بشهادة مدرسية لأحد إخوتي، لكن لم يخطر لي أبداً أنّها عائدةٌ من المحكمة التي ستحدّد مسار حياتي، بعد ثلاثين جلسة وثمانية عشر عاماً قضيتها في الانتظار، متقلّباً بين اليأس والأمل.
أبي سوريّ الأصل، كان يؤدّي خدمته العسكرية في لبنان حين تعرّف إلى والدتي، فقررا الزواج والاستقرار في لبنان. لم يثبت والداي زواجهما في أيّ من البلدين، ظنّاً منهما أنّ ذلك سيسهل حصول والدي على الجنسية اللبنانية، كما أخبرهما أحد المحامين. مرّت أعوامٌ وهما في انتظار الجنسيّة، وخلال هذا الوقت الطويل أنجبا ستّة أبناء مكتومي القيد، كنت أكبرهم.
منذ اللحظة الأولى لي في هذا العالم، اتّخذت حياتي مساراً غير اعتياديّ. أنجبتني والدتي من دون تخطيط أو معرفةٍ مسبقة أثناء زيارتها عائلة أبي في سوريا. بعد خروجنا من المستشفى، نقلتني، هي ووالدي، كالبضائع المهرّبة إلى لبنان. فأنا لم أملك أيّ ورقة تعرّف عني، إذ لم يكن باستطاعة أبي تسجيل ولادتي لأنّ زواجه نفسه غير مسجّل. هكذا، عبرت الحدود من دون أن يتنبّه لي أحد. لاحقاً، سأقضي طفولتي على الهامش بلا صخب ولا ضجيج، ولن أثير انتباه أحدٍ أيضاً. بلا صخب أو ضجيج.
كانت طفولتي بائسة وحزينة، لم يخفف من بؤسها سوى أملي بالحصول على الهوية التي حُرمت منها. في منتصف التسعينيات فُتح باب التجنيس أخيراً. هرع والدي لتقديم ملفّه ووكّل محامياً، وبدا شديد التفاؤل حينها. كان ذلك أملنا الوحيد لنحيا حياة طبيعية.

سعى أهلي بجد لتحصيل هويّاتٍ لي ولإخوتي وثابرا لأعوامٍ على تلبيّة الدعوات المتكرّرة إلى المحكمة التي تنظر في قضيّتنا. كانا يتهيّآن لكلّ جلسة جديدة كمن يستعدّ لخوض معركة. في صباح يوم الجلسة الأولى، تجهّزا باكراً، وأبلغانا أنّ المسألة لن تأخذ الكثير من الوقت، فقد “راح الكتير وبقي القليل”.
يومَها انتظرنا عودتهما وهما يحملان الهويّات بأيديهما بفارغ الصبر، لكنّ ذلك لم يحصل. لم يشرحوا لنا تفاصيل الجلسة. لكنّني عرفت لاحقاً أنّ عليهما في البداية تثبيت زواجهما، وثانياً أن يحصل والدي على الجنسية اللبنانيّة، وبعد ذلك فقط تتمّ دراسة ملفّاتنا نحن الأبناء. جسلةٌ تلو أخرى كان والداي يعودان بأجوبة مقتضبة: “تأجلت الجلسة” و”إن شاء الله خير”. مع ذلك كنت مدركاً أنّ الأمر أكثر تعقيداً. كنت أسمع دعوات أمّي على القضاة وبعدهم المحامي الذي كان يتركهما يتحدّثان مع القاضية من دون مساعدتهما.
بعد عدّة جلسات وسنوات من التأجيل ودراسة الملف، تمكّن والدي من تثبيت زواجه والحصول على الجنسيّة اللبنانيّة. لم تسعنا الفرحة وقتها لاعتقادنا أنّ المشكلة قد حُلّت. والدي لبناني، ووالدتي لبنانية، إذاً لا بد أن أكون أنا أيضاً لبنانياً!
مع بدء الجلسات الخاصّة بملفاتنا أنا وإخوتي، كنت قد بلغت الثامنة عشر من عمري. صرت أرافق أهلي إلى المحكمة بين حينٍ وآخر. في كلّ مرة أعبر فيها الـ”سكانر” على باب المحكمة أشعر بالسعادة، فقد أحببت الصوت الذي يصدره الجهاز والإحساس الذي يرافق عبوره. صحيح أنّني كنت أعتبر راشداً وقتها، لكنّني احتفظت بشيءٍ من الطفولة التي حرمت عيشها، إذ قضيتها بين العمل والمنزل بعيداً عن ألعاب الأطفال وتساليهم. كان حرّاس المحكمة لطيفين معي، يمازحونني دوماً، ويسألونني بهزلٍ عمّا إذا كنت أخبئ شيئاً في جيوبي. كان ذلك يخفّف من رهبة المحكمة، التي تبدو أروقتها الضخمة الفارغة أشبه بساحات ميتة، تمتلئ بالأبواب المغلقة. أمّا في القاعات فلم يحدث شيءٌ مسلٍ أو مشوّق على وجه الخصوص.
في إحدى المرات، أراد أحد القضاة أن يستمع لإفادتي، لكن المحامي ووالديّ تحايلوا على القاضي لكي أبقى خارجاً. كانوا يخشون أن أدلي بأقوالٍ قد تكون مضرّة في مسعاهم لتحصيل الهويات. بقيت منتظراً على باب غرفة الجلسة ولم يكن هناك كرسيٌ لأجلس عليه. كان يوماً صيفياً حاراً، وطال انتظاري لوالديّ. من فرط الملل والتعب، غفوت على البلاط البارد، ثمّ استيقظت على أصوات الناس الخارجين من الجلسة. في العادة يُنظر في عدّة قضايا مرتبطة لأشخاصٍ مكتومي القيد في الجلسة الواحدة، وغالباً ما يكون الناس متذمّرين عند خروجهم، أحياناً يظهر عليهم الحزن، وأحيان يبدون منكسرين.
كانت رؤيتهم تحطّ من أملي وتبث اليأس في نفسي.
مع ذلك، كنت أفرح في كلّ مرّة يحدّد فيه موعدٌ لجلسة جديدة، وأتأمل أن تكون الجلسة التي ستغيّر حياتي. لكنّ القاضية لم تكن مقتنعة بأنّني ابن أبي وأمّي، ربّما لارتباكهما أمامها لقلّة خبرتهما وتقاعس المحامي. صارت تطلب من والدي إحضار مستندات من المستحيل الحصول عليها، كإخراج قيد عائلي، هو الذي لم يزر سوريا منذ انتهاء خدمته العسكرية. في الجلسة الأخيرة، كما أخبرنا أبي لاحقاً باقتضاب، ذكرت أمّي أسماء إخوتي الخمسة ولم تذكر اسمي. ذكّرها والدي بي، لكنها أجابت بأنّ قضيتي منفصلة عن قضية إخوتي لأنّي بلغت الثامنة عشر. ظنّت القاضية أمام هذا الجدال أنّني من أم ثانية وأن هناك تحايلاً ما يجري لمنحي هويّة لا أستحقّها .لهذا السبب أجّلت منحي الهوية أنا واثنين من إخوتي، وأعطتها لثلاثةٍ منّا. لم أفهم المنطق الذي قادهم لحكمٍ كهذا، ولم أجد أيّ تفسير مقنعٍ له. كلّ ما عرفته لاحقاً هو أنّ القاضية أرادت فتح تحقيق منفصل بقضيتي بعد أن أجري فحص الحمض النووي، وها أنا اليوم، ما أزال منتظراً ذلك.
كان يوم الجلسة الأخيرة التي أنهت أحلامي هو اليوم الذي أتت فيه أمّي سعيدة إلى المنزل، لأنّها استطاعت تحصيل ثلاث بطاقات هويّة لثلاثةٍ من أولادها. آنذاك، بقيت في غرفتي وبكيت كثيراً. لم أشعر في حياتي بالحزن الذي شعرت به يومها. لم تواسِني أمّي ولم تنتبه حتى لمأساتي، فبكيت حتّى غلبني النوم. لقد فهمتُ أنّني لن أحصل على الهويّة أبداً.. سيترك هذا اليوم أثاره عليّ حتى الآن، وسيعبث بحياتي العملية وحتّى العاطفية. كشخصٍ مكتوب القيد، حتّى الحبّ كان يهرب منّي.

عن ليلى المحرومة من حقّ الاستشفاء

ليلى، فتاة من طرابلس، لم تتمكن من الدخول إلى المستشفى لإجراء عملية جراحيّة، فاضطرت إلى استعارة بطاقة الهويّة من إحدى قريباتها، مما عرّض حياتها للخطر..

تشغيل الفيديو

-2-

منذ أن كنت مراهقاً، ارتبط الحبّ في حياتي بالرفض والانكسار. كلّما تعرّفت إلى فتاة بغرض أن نصير حبيبين، سارعت هي لوضعي في خانة الأصدقاء بمجرد علمها بأنّني مكتوم القيد. لذلك صرت أتجنّب التقرّب من أيّ فتاة خشية الرفض، وأنتظر مجيء المبادرة منهنّ. في الثامنة عشرة، أعجبت بفتاة كانت تمرّ بسوق الذهب، حيث أعمل، في ذهابها وإيابها اليومي إلى المدرسة. سحرتني طلّتها، لذا كنت كلّ يوم أقف أمام المحل في الموعد الذي أعلم أنها ستمرّ به، من دون أن أجرؤ على الاقتراب منها. بعد فترةٍ، كتبت إليّ رسالةً ورقيّةً تسألني فيها لماذا أنظر إليها كثيراً، فأجبتها أنّني معجبٌ بها، وهكذا بدأت قصتنا.

كنّا نلتقي في الأعياد، أغمزها فتلحق بي. نتجوّل في الحارات القريبة ونتبادل الحديث، لكنّني لم أتطرّق يوماً لمشكلتي. كان الجميع يظّنها خطيبتي، وكان ذلك يسعدني. حتى على الحواجز الأمنيّة، يتجاهل العناصر سؤالي عن أوراقي حين تكون هي معي، عكس الأوقات التي أكون فيها وحيداً أو مع أصدقائي الشباب، حين كنت أنتظر لوقتٍ طويل ليتحقّقوا من هويتي، وقد يأخذونني إلى المخفر ظنّاً منهم أنّني هاربٌ من العدالة.
تجنّبي ذِكر حقيقة كوني مكتومَ القيد جعل علاقتنا سلسةً لبعض الوقت، إلى أن رأتنا جارتها سوياً خارج حيّها، فأبلغت والدتها التي استشاظت غضباً، فوبّخت ابنتها ثم أتت تشكوني لوالدِي، كأنّ الحب فعلٌ غير أخلاقيّ. سألها والدي عمّا تريده، فجاءه الجواب: “تزويجهما”. لم يوافق بدايةً، فقد كان مريضاً وكنت أنا من أصرف على المنزل، ظنّ أنّني إن ارتبطت سأخلّ بواجباتي تجاه أهلي فوعدها بأنّه سيضع حداً للعلاقة. عندما أخبرني بقراره تسلّح بحجّة واحدة: “كيف بدك تاخدها بوضعك أنت؟”.
تعرّضت للسخرية من العائلة، سألتني أختي إن كنت سأعيش في كرتونة على شاطئ البحر، ووقف الجميع ضدّي. كان بديهياً بالنسبة لهم، أنّني لن أحظى كمكتومٍ للقيد بحياةٍ عائليةٍ طبيعية. مع ذلك لم أستسلم، طلبت منهم وقتاً ووعدتهم بأنّني سأحسّن أحوالي، ثمّ أدخلت مديري في العمل كوسيط بيني وبين والدي، حتّى تمكّنت من إقناعه. لم يكن أهل حبيبتي قد تعرفوا إليّ بعد، كلّ ما كان يهمهم هو أن تتمّ الخطبة، لكي يتخلصوا ممّا نسميه الحب لتصير العلاقة رسميّةً أمام الناس. أخيراً، جاء اليوم الموعود، يوم قراءة الفاتحة وتلبيس المحابس. كنت أسعد إنسانٍ في الكون. تمّت الخطبة في منزلهم وسار كلّ شيءٍ بسلاسة. في نهاية السهرة، وقبيل رحيلنا، أخبرت أهلها بأنّي مكتوم القيد، فنزل الخبر كالصاعقة على رؤوسهم. ظنّت خطيبتي في البداية أنّني أمزح، لكنّها حتّى بعد معرفتها بجديّة ما أقوله، لم تمانع في مواصلة حياتها معي. أمّا أمها حادة الطباع، فلم تتقبّل الأمر، وراحت تسألني كيف سأعقد قراني، وكيف سأثبت زواجي، وماذا سيكون مصير أولادي، وأسئلةٌ أخرى كثيرة لم أملك أي إجابةٍ عليها.
كنت في ذلك الوقت ما أزال أسعى للحصول على الجنسية، لم يكن الحكم بتأجيل البت بملفّي قد صدر بعد. حاولت إقناعها بأنّ الفرج قريب، لكن لم تبدُ عليها علامات الاقتناع. فوق ذلك، صارت وأقرباءها يرمقون أمّي بنظرات ازدراء مريبة، قبل أن أسمعها تتهامس مع شقيقتها حول والدتي. غضبت كثيراً، ولم أحتمل أن يستصغرنا أحد ويقلّل من قيمة أمّي. ففركشت كل شي. طلبت من خطيبتي خلع المحبس، وخرجت من منزلهم كإعصار، رميّت كلّ ما ظهر في وجهي وركلت كراسي الخطبة. بقيت يومين خارج البيت قبل أن أعود. كان الانفصال صدمّة لكلينا، إذ كيف يمكن للحب أن يُسلب منّا بهذا الشكل؟
بعد انقطاع علاقتنا ضاقت بي الدنيا، وصرت أتجنب المرور بالطرقات التي أعرف أنها قد تمرّ بها. لجأت للشرب للمرة الأولى، فارتدتُ الحانات مع أصدقائي، حيث تعرفت إلى العديد من الفتيات. صرت أسهر كل يوم وأسكر لأنسى، ولم أعرف إلّا بعد مرور الوقت بأنّ ذلك يجرّني إلى أماكن أكثر ظلمة. ثمّ، تركت طرابلس كلها وانتقلت للعيش والعمل في بيروت.
بعد ستّة أعوامٍ صاخبةٍ عشتها في بيروت تناهت أخباري إلى مسامع أبي، فطلب منّي العودة وارتأى أن يزوّجني كي “أعقل” بحسب تعبيره. كنت قد صرت شاباً في منتصف العشرينات، فيما هو يذوي مع تقدّمه بالعمر واشتداد المرض عليه، فعدت لأساعده. بعد فترة، زفّ إليّ خبر قراءته الفاتحة مع أهل إحدى الفتيات كأوّل خطوة على طريق الخطبة ولاحقاً الزواج. لم أقتنع بذلك، فمن هي التي ستقبل بشخصٍ بلا هوية؟ لذا سألته باستهزاءٍ عمّا إذا كان قد قرأ فاتحتي في القبر، فأجاب بجديّة: “سأزوّجك”.
وهذا ما حصل فعلاً.
لم أتقبل الفكرة في البداية، وعاملت زوجتي المستقبلية باستخفاف. لم تعجبنِي الفتاة ولم تكن كما أحب، لكنّني وافقت لأرضي أهلي. بعدها تولّى أهلي تحضيرات الخطبة والزواج، وكانت فترة جميلة على الرغم من عدم اقتناعي بالعروس. لم يثبّت زواجنا في دوائر الدولة، لكنّه كان قانونيّاً بالنسبة للمحكمة الشرعيّة.
بعد عامين على زواجنا أصيبت زوجتي بالسرطان. وكما جرى عند إنجابها لأطفالنا، كنت أُسأل في كلّ مرّة آخذها فيها إلى المستشفى عن هويّتي، ممّا عسّر أمورها وأصابني بالضيق. لذا طلبت لاحقاً من شقيقتها أن ترافقها لتيسّر الأمور. تحمّلت وحدي كلّ تكاليف علاج زوجتي، إذ لا توجد جهةٌ تضمنني ولا أستطيع الحصول على مساعدةٍ من أحد.

عن عبد الله الذي ليس له سوى البحر

عبد الله، شاب من باب التبانة في طرابلس، لم يثبت والداه زواجهما فكبر وليس معه هوية. بعد محاولات فاشلة للحصول على الجنسيّة لم يجد ملجأ له سوى البحر..

-3-

بعد إنجابها لولدين قالت والدة زوجتي أنّ علينا التوقّف هنا، إذ أنّ الأطفال سيكونون مكتومي القيد كوالدهم. لم أستطع الاعتراض على كلامها، فأنا نفسي كنت أكتئب في كلّ مرّة أتخيل فيها مستقبلهم. لذلك أخذت قراراً بأن أفعل المستحيل لتحصيل هويّاتٍ لهم تجنّبهم أن يعيشوا حياةً كالتي عشتها.
في طفولتي المبكرة ارتدتُ عدة مدارس. كان تسجيلي في المدرسة عمليّةً صعبةً جدّاً تحتاج أسابيع من التحضير وزيارات عدّة للمختار وتجهيز ملفٍ مليءٍ بالمستندات. بسبب ذلك، توقّفت عن ارتياد المدارس الرسمية، وانتقلت إلى مدرسة دينية لم تكن تدقّق كثيراً بالأوراق الثبوتية. خلال رحلتي الدراسية القصيرة، دائماً ما شعرت بأنّني غريب ومختلف بسبب نظرة المعلمين ومعاملتهم لي، كما لو أنّني لم أكن بشراً مثلهم. لم أستطع أن أكمل تعليمي مع أنني أردت ذلك، إذ ما إن وصلت إلى الصف الثاني، حتى صار من الصّعب أن يتمّ تسجيلي بلا أوراقٍ رسميةٍ عبر واسطة المختار.
أخرجني والداي من المدرسة إلى ميدان العمل وأنا لم أتجاوز التاسعة من عمري، كان ينبغي أن أتعلّم “شي مصلحة”. في البداية، عملت عند ميكانيكي سيارات، وقد أحببت ذلك العمل، لأنّني أحب السيّارات كأيّ طفل في التاسعة من عمره. كان عملي مقتصراً على توصيل وإحضار أغراضٍ للمعلم، وأحياناً إيصال أبنائه من وإلى المدرسة.

لا أستطيع أن أصف حزني في كلّ مرّة تعيّن عليّ فيها الذهاب إلى المدرسة. لكن أحلامي وقتذاك هوّنت من ألمي.
حلمت أن أمتلك سيارة عندما أكبر، لكنّني سرعان ما عرفت أنّني لن أستطيع تسجيلها باسمي. يمكنني أن أقودها لكنّني سأكون حينها مخالفاً للقانون، لأنّني لن أملك رخصة قيادة، ولأنّ السيارة غير مسجلة. كرهت ركوب السيارات، أردت أن أكون قانونيا، ولا يمكنني ذلك. يئست من ميكانيك السيارات، فتركت المجال كله وانتقلت لعالم صياغة الذهب. تمسّكت بحلمي أنّني يوماً ما سأصير ثرياً لتُحلّ أزماتي. أليست لغة المال هي الأقوى؟
لكنّ الحياة في مصلحة الذهب والمجوهرات لم تكن ورديّة. لاحقتني لعنة مكتوم القيد ولم تتركني وشأني. حاولت حيازة شهادة في صناعة المجوهرات لكنّني لم أستطع الحصول عليها من دون هويّة أو جواز سفر أو جنسيّة، أو أيّ شيء يثبت أنّني إنسان وأنّني موجود. كنت أريد تأسيس معهد لتعليم مصلحة المجوهرات، لكنّ العائق نفسه قطعَ عليّ الطريقَ مجدداً.
مع ذلك بقيت في مصلحة المجوهرات، ادّخرت المال حتى تمكّنت في النهاية من فتح معمل لصياغة الذهب وصنعت لنفسي اسماً في السوق. شاركت العمل مع أحد الأشخاص لمدة أربعة أعوامٍ تقريباً، إلى أن نصب عليّ من دون أن أستطيع القيام بشيء. طردني بعد أن أخذ مئة وخمسين غراماً من الذهب وسبعة آلاف دولار. قال لي يومها: “ما في شي بيني وبينك. جيب ورقة، جيب دليل”، وكان على حق، إذ لم يكن أمامي سوى خياران: قتله أو الانسحاب بصمت.
لامني الكثيرون آنذاك، متسائلين كيف يمكن أن أدخل في شراكة مع رجلٍ من دون أوراق. بكيت كثيراً حينها، لكنّني تعلّمت أهم درسٍ في حياتي، وهو ألا أجرؤ على المغامرة ببدءِ أي مشروعٍ أبداً، فهو محكومٌ عليه بالفشل مسبقاُ. مع ذلك، حافظت على شغفي بمصلحة المجوهرات، وإن رافقتني الحسرة على وضعي كشخصٍ بلا هويّة ممّا صعبّ عليّ العثور على وظيفة جديدة، ومنعني لاحقاً من تطوير عملي وحتّى مهاراتي.
صرت أخجل بنفسي، من مجرّد وجودي في هذا العالم. ممنوعٌ من العمل ومن السفر ومن الحركة حتّى. كلّما أوقفني حاجزٌ وطلب هويتي، أعرض الورقة الزرقاء الوحيدة التي أعطاني إيّاها المختار لتعرّف عنّي. ينظر إليّ العسكريّ بفوقيّة واحتقار، فأسأله “ليش مستقرفني؟”. صارت حياتي حلقة مفرغةً، من العمل إلى البيت ومن البيت إلى العمل. إن حُجزت في وضعٍ غير مستقرٍ كهذا، قد تجعل منّي دولتنا إرهابياً.

عن قمر وهشاشة الحال التي عرضّتها للاغتصاب

قمر (اسم مستعار) فتاة في بداية العشرينيات من عمرها. عرض عليها أحد المحامين المساعدة للحصول على الهويّة، وعندما التقاها، استغل “ضعفها”.. واغتصبها!

-4-

على الرغم من كلّ ما عانيته، يظلّ أولادي خيط الأمل الذي أتمسك به لرغبتي بمنحهم حياةً أفضل من التي عشتها، ولهذا السبب ما زلت أسعى للحصول على الجنسية. تواصلتُ مع الكثير من الناس المقرّبين من سياسيين مختلفين في المدينة، علّهم يساعدونني في تحصيل الجنسية، خاصة أنّهم رفعوا من آمالي. ذهبت وأتيت كثيراً من دون جدوى، وانتظرت في مكاتب سياسيين كثر، ليقولوا لي في النهاية: “عذراً، فقانون منح الجنسيّة معطل”، كما لو أنّني لا أعرف ذلك. ضاق ذرعي من نفاق هؤلاء الناس. أعلم أن القرار متوقّف وأعلم أنّ لا أحد يعيره الاهتمام، لكنّني أريد الجنسية لسبب واحد هو ألا يُكتب على أبنائي نفس مصيري، وألّا يتعذّبوا كما تعذبت. أنا عانيت و”خلص مشي الحال، راحت عليي”، وكلّ ما حلمت به تحطم. لا أريد لأبنائي أن يتركوا المدرسة بعد عامين من الآن.

في السابق قمتُ بتوكيل محامٍ ودفعت له عشرين ألف دولار لمساعدتي في تحصيل الجنسية، لكنّني لم أصل إلى نتيجة. منذ سنتين وكّلت محامياً آخر، ولم أدفع له بعد سوى توكيلٍ بقيمة مليون ليرة. سألته في إحدى المرات عن سبب حصول بعض معارفي من مكتومي القيد على هوياتهم، فيما بقيت الهوية ممنوعة عليّ وحدي من دون الناس، فهزّ رأسه أسفاً من دون أن يملك جواباً يمنحني إيّاه. شعرت بأنّ هذا المحامي إنسانٌ متعاطفٌ ومجدّ في عمله، ووعدته أنّني سأعطيه ما يشاء إن أحضر لي بطاقة هويتي. طمأنني بإنه سيحضر لي الهوية تحت أي ظرف، رغم أنّ القاضية ما زالت غير موافقة على توقيع ملّفي وإنهاء قضيّتي، ووعدني أن نذهب إلى بيروت في وقت قريب لننهي المسألة.

عن ليلى المحرومة من حقّ الاستشفاء

ليلى، فتاة من طرابلس، لم تتمكن من الدخول إلى المستشفى لإجراء عملية جراحيّة، فاضطرت إلى استعارة بطاقة الهويّة من إحدى قريباتها، مما عرّض حياتها للخطر..

تشغيل الفيديو

عن عبد الله الذي ليس له سوى البحر

عبد الله، شاب من باب التبانة في طرابلس، لم يثبت والداه زواجهما فكبر وليس معه هوية. بعد محاولات فاشلة للحصول على الجنسيّة لم يجد ملجأ له سوى البحر..

عن قمر وهشاشة الحال التي عرضّتها للاغتصاب

قمر (اسم مستعار) فتاة في بداية العشرينيات من عمرها. عرض عليها أحد المحامين المساعدة للحصول على الهويّة، وعندما التقاها، استغل “ضعفها”.. واغتصبها!

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

كتابة: دعاء السباهي
رسم: كمال حكيم
تصوير فوتوغرافي: بثينة تلاوي
فيديو: دعاء السباهي، صفية طه، محمد عابدين، عبد القادر الآيي، بثينة تلاوي
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: روان المقداد
إشراف: إبراهيم شرارة

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

كتابة: دعاء السباهي
رسم: كمال حكيم
تصوير فوتوغرافي: بثينة تلاوي
فيديو: دعاء السباهي، صفية طه، محمد عابدين، عبد القادر الآيي، بثينة تلاوي
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: روان المقداد
إشراف: إبراهيم شرارة

أقرأ/ي أيضاً

عاملات مكافحات في البلاد الغريبة

عملت ماسرشا، القادمة من إثيوبيا، في منزلَين مختلفين في لبنان. كانت رحلتها طويلة وشائكة في بلدٍ تفتقد فيه أية حماية من الاستغلال وسوء المعاملة. لكنها تعمل اليوم برفقة عاملات منزليات أخريات على خلق مساحة آمنة للعاملات وتوفير المساندة التي افتقدتها هي خلال تجربتها في لبنان.

مذكرات امرأة لبنانية سوداء

من المجتمع إلى المدرسة والجامعة، وحتّى منزل العائلة، حكاية نور، فتاة من أمّ إفريقية وأب لبناني، مع العنصرية والقهرِ وأشكال التمييز. أو… كيف تنجو امرأة سوداء من عنفِ كلِّ شيء؟

منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.

محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد

اتصل/ي بنا

او تواصل/ي معنا عبر البريد الالكتروني

انضم/ي إلينا

تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.

القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.