مذكرات امرأة لبنانية سوداء

من المجتمع إلى المدرسة والجامعة، وحتّى منزل العائلة، حكاية نور، فتاة من أمّ إفريقية وأب لبناني، مع العنصرية والقهرِ وأشكال التمييز. أو… كيف تنجو امرأة سوداء من عنفِ كلِّ شيء؟

نص: زينب كنعان

1
مضت أكثر من عشرة أعوامٍ على آخر مرّةٍ رأيت فيها عمّتي قبل عودتي إلى أفريقيا. مع ذلك، كان استقبالها لي عند وصولي بارداً بعض الشيء. كنت أعرف أنّ السبب هو فضيحتي في سيراليون، ولذلك شعرت بكثيرٍ من الامتنان على قبولها استضافتي خلال فترة دراستي الجامعية.

على امتداد الطريق من المطار إلى بيتها، كنت أفكّر بالعبارات التي أطلقتها عليّ يوم أخبرها أبي بالحادثة. قلت لنفسي أنّ عليّ أن أحسن التصرّف لأكسب ثقتها وثقته مجدّداً لأمحو بذلك الصورة البشعة التي كوّنتها عنّي.

بعد الترحيب الباهت وتناول الغداء، بدأت عمتي فوراً بتلقيني واجباتي التي سبق وأن أبلغني بها والدي: يتوجّب عليّ أن أسمع كلمتها وأن أُعلِمها بكلّ تحركاتي، وبالطبع عليّ مساعدتها في أعمال المنزل، إضافةً إلى ذلك يُمنع عليّ استقبال أيٍّ من أصدقائي. ثمّ اقتربت منّي وقالت بصوتٍ منخفضٍ حازم: “حافظي على حالك، أعني هذا”، وأشارت إلى ما بين فخذَي، قبل أن تتابع قائلة: “خاصة بوضعك. أقصد أنكِ سمراء. يملك الناس هنا فكرةً سيئة عن السمراوات، لذا عليكِ المحافظة على نفسك”.

انتهى حفل الاستقبال. لم أفهم تماماً مغزى كلامها، ولا مقصدها من عبارة “وضعي أنا”. كنت أعلم أنّ عليّ بذل قصارى جهدي، وألّا أقترف أيّ خطأ قد يدفع أبي لإعادتي إلى سيراليون. كان قد هددني بأنّ أيّ عثرةٍ سترتد عليّ بعقابٍ لا يقارن بأيّ من العقوبات التي تعرّضت لها سابقاً.

في الأيام التالية، عاملتني عمتي بشيءٍ من اللؤم. كانت من جهةٍ تنتقد كلّ تصرّفاتي وتردّها إلى العرق الإفريقي، ومن جهةٍ ثانية قامت برمي كلّ الأعمال المنزلية فوق عاتقي، معتبرةً ذلك نوعاً من ردٍ لجميل استضافتها لي.

2
عشت طفولتي في بلدتي قانا. كُنت أخرج من المنزل صباح كلّ يومٍ، وأتسكع في شوارعها بحثاً عن أصدقاء أعوّض بهم عن غياب العائلة. آنذاك، كان الكثير من المارة ينهرونني لخروجي إلى الشارع وحيدة. يوقفون سيرهم ليسألوا: “لم أنتِ هنا؟ أليس لديكِ أهل؟ عودي إلى المنزل”.

تعرّضت خلال تلك الفترة للعديد من المواقف العنصرية، لكنّي لم أكن أتوقّع أنّني سأعود وأواجه المشكلة نفسها عندها عودتي وأنا صبيّةٌ في العشرين. لم أتخيّل مثلاً أنّ صديقات الطفولة سترفضن مرافقتي بسبب لون بشرتي، ولا أنّني سأضطّر للاختباء كي لا أستمرّ بسماع مصطلح “سيريلانكيّة” من أحد، وهي الكلمة التي اعتادوا إطلاقها على كلّ ذوي البشرة السمراء، أيّاً كانت جنسيتهم!

كانت العنصريّة سبباً رئيسياً لخجلي وانطوائي على نفسي بعد عودتي إلى لبنان.

في إحدى المرّات زارتنا جارةٌ لعمتي فدخلتُ لألقي عليها التحيّة، لكنّها توجهّت إلى عمتي وسألتها: “هل أحضرتم عاملة جديدة؟”. لم تكن تلك المرّة الوحيدة التي ظنّ فيها الناس أنّني عاملة منزلية، لذا كانوا يستغربون اتقاني للغة العربية وارتدائي الحجاب، وتزداد حيرتهم حين أخبرهم بأنّني لبنانيةٌ مثلهم. تبدّى لي سريعاً أنّه لا مفرّ أمامي من الإحساس بأنّني كائن دخيل على هذا المجتمع. فُرضت عليّ حياة الظلّ، فصرت أمتنع حتّى عن رمي القمامة في النهار كي لا يظنّني أحدٌ عاملةً أجنبية. مع ذلك استمرّ أبناء الجيران بمنادتي “يا سيريلانكية.. سودا، سودا، سيريلانكيّة”، في كلّ مرّة أكون فيها أنشر الغسيل على الشرفة.

3
كافحت كثيراً حتّى أقنعت أبي بالموافقة على إكمال دراستي الجامعية. في الليلة التي أبلغني فيها بموافقته، أحسست بأنّني وصلت إلى النور في آخر النفق المظلم. شعرت بأنّني قد صرت حرّة، وبأنّ حياتي قد بدأت الآن. قريباً، لن أسمع صوت أبي مجدّداً، ولن أستيقظ على شتائمه، وسأتحرّر من تسلّطه. كانت فرحتي أشبه بفرحة مريض وجد العلاج لمرضه العضال.

ظننت أنّ التحاقي بالجامعة سيمنحني الحريّة لصنع حياتي الجديدة، لكنّني سرعان ما اكتشفت أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، فلا سلطة أبي انتهت ولا حياتي الوردية بدأت.

في يومي الأوّل في الجامعة، استوقفني الحارس عند البوابة ليسألني: “لبنانية؟”. فاجأني سؤاله، لكنّني هززت رأسي بالموافقة وأريته البطاقة. رافقني هذا السؤال المتّهم والمشكّك بسبب لون بشرتي في كلّ مكان. ومع ذلك دائماً ما حاولت أن أتجاهله وأن أكمل يومي بشكل طبيعي. للوصول إلى الصف، كان عليّ اجتياز ممرٍ يفصل بين صفيّن من المقاعد الحديدية التي يجلس عليها الطلاب. مرّرت من دون أن أنظر إليهم، لكنّ تعليقاتهم وصلت إلى مسمعي: “من هذه السوداء؟”. التفتّ فرأيت أحدهم يشير بإصبعه نحوي قبل أن ينفجروا جميعهم بالضحك.

منعني إحساسي بأنّني غير مرغوبةٍ بسبب لوني من تكوين صداقاتٍ في البداية داخل الجامعة، وزاد من ذلك مظهري الخارجي الذي لم يكن يرضيني.

كان أبي يرسل لعمتي مبلغاً شهرياً كمصروفٍ لي، إلّا أنّها كانت تديره بصرامةٍ شديدة. في صباح كلّ يوم، تعطيني مبلغاً يكفي لأجرة التاكسي وتنكة “بيبسي”، حتّى أنّها كانت تقول أحياناً: “لا تشتري بيبسي، خذيها معكِ من المنزل”. لم تكن هي من تصرف عليّ، لكنهّا لم تكن تسمح لي بالتسوّق أو بشراء شيء لنفسي.

انعكس هذا التقنين سلباً على نظرتي إلى نفسي، خاصةً أنّني كنت أرى زميلاتي في الجامعة يرتدين ثياباً جديدةً ومختلفةً كلّ يوم. كنت أشعر بنظرتهن الدونيّة إليّ، وتعرضت للاستغلال من بعضهن، إذ كنّ يوكلن إليّ طباعة أبحاثهن ثمّ بعد ذلك يتجنّبنني فلا يردّن عليّ حتّى التحيّة.

كانت تلك العنصرية امتداداً للتجربة التي تعرّضت لها خلال دراستي الابتدائية في لبنان. كنت صيداً ثميناً وسهلاً للمتنمرين. لولاهم، كنت سأظلّ مقتنعة أنّني لبنانية مثل غيري، وأن شعري أجعد لأنّه احترق بفعل الأدوية، وأن بشرتي سمراء غامقة لأنني تعرّضت لأشعّة الشمس طويلاً. كان التنمّر في المدرسة هو السبب الذي جعلني أنتبه إلى أنّني مختلفةٌ عنهم. رفض بعضهم الجلوس إلى جانبي في الصف، وقالوا للمعلمة: “لا نريد الجلوس بالقرب من الفتاة السوداء”، وحتى أولئك الذين وافقوا على اللعب معي ثابروا على نقل الكلمات الجارحة التي كانوا يسمعونها عنّي إليّ.

كان شعري وحده كافياً لأعاني من التنمّر. كانوا يصفونه بـ”جبّ البلّان” و”السِّيف”. وزادت من معاناتي إصابتي بالقمل وأنا طفلة.

لم أكن أهتم كثيراً بشعري، ولم يكن لديّ أمٌّ لتهتم بي. اضطرّت عمّتي وقتها إلى حلق شعري بالكامل، فكان عليّ أن أرتدي قبّعةً لأخفي الأمر. لكنّني لم أنجح بالحفاظ على سرّي لوقتٍ طويل، ففيما كنت في باص المدرسة يوماً، سألني أحد التلامذة عن سبب ارتدائي للقبعة وطلب منّي نزعها. عندما رفضت ذلك قام الأولاد بنزعها غصباً عنّي، وراحوا يلعبون بها وهم ينادونني “حسن صبي”.

لاحقتني حشريّة الطلّاب دائماً، حول لوني وشعري وأمّي. كنت أخبر زملائي أنّ أمّي قد توفّيت لأكسب تعاطفهم وأسلم من التعليقات الجارحة. استمرّت هذه الحشريّة في الجامعة، فكثيراً ما كانت تُطرح عليّ أسئلة من نوع: “من أين جئت؟ شكلك من أفريقيا؟ أين أهلك؟ أين تقيمين؟”.

على الرغم من ذلك، بقيت مصرّة على إثبات نفسي في الجامعة. كان إتقاني للغة الإنجليزية ولكنتي الصحيحة سلاحي الخفّي الذي فتح الباب أمامي لاكتساب الاحترام رغم استمرار نظرات الاحتقار في عيون بعض زملائي.

4
أحببت المسرح منذ كنت طفلة، ورأيت في نفسي الجرأة على الوقوف على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور بكل ثقة واندفاع. لكنّني لم أسلم هناك أيضاً من العنصرية.

اختارتني المعلّمة في المدرسة للمشاركة في مسرحيةِ صفّنا، وأسندت إليّ وقتها دور الشخصيّة الشريرة. في يوم العرض، كان من الصعب تمييزنا عن بعضنا، فقد كان الجميع يرتدي الأقنعة، لكن كان من الصعب عليّ أن أخفي شعري المجعّد تحت القبعة. بمجرّد ظهوري على الخشبة، انفجر الجمهور بالضحك. حاولت أن أزمجر وأن أرفع صوتي لأقنعهم بأنّني الوحش لكنّ ذلك زاد من ضحكاتهم.

لاحقاً، أخبرتني زميلتي أنّ شعري كان مضحكاً وجعلني أبدو كمن صعقتها الكهرباء.

تكرّر ذلك مجدّداً في الجامعة، حين طُلب منّا في أحد الصفوف أن نختار بلداً معيّناً لنقدّم عرضاً عن ثقافته. وقع اختياري على الهند، إذ كانت لي صديقاتٌ من أبٍ لبناني وأمٍّ هنديّة وكنت أعرف الكثير عن ثقافة هذه البلاد.

تحضّرت للعرض جيّداً، وارتديت السّاري، زيّ النساء الهنديات التقليدي. وعندما اجتزتُ بوابة الجامعة واجهتني نظرات الطلّاب المستغربة، وتعليقاتهم الجارحة: “هل أصبح هناك طلّاب سيريلانكيون في الجامعة؟”.

ابتلعت حزني وغضبي وخجلي وعبرت بينهم بصمت. أثناء تقديمي العرض كنتُ أرى نظرات الطلّاب المستهزئة وكيف يتضاحكون سرًّا. مع ذلك أجبرت نفسي على التزام الهدوء وإنهاء أدائي الذي تكللّ بمديحٍ من الأستاذة المشرفة وتعليقاتٍ عنصريّةٍ من الطلاب.

5
على الرغم من التنمّر الذي تعرضّت له في صغري إلّا أنّ رغبتي باللعب كأيّ طفلة في سنّي كان أكبر، وبالتالي كنت أختلط مع الأطفال اللبنانيين. لكن الأمور تختلف في مرحلة الشباب، ويصير من الصعب تجاهل نظرة الآخرين لنا. ربّما لهذا السبب صرت صديقة لشيرين في الجامعة، فهي مثلي من أمّ أفريقية وأب لبناني.

في إحدى المرّات قامت بزيارتي، وبعد مغادرتها قالت لي عمتي بارتياح شديد: “احمدي الله أنّك لستِ مثلها، إنها أكثر سواداً منكِ، فأنتِ لون بشرتك فاتح، الحمدلله”. شعرتُ بالغيظ ولكنّي سكتت. لم عليّ أن أحمد الله على أنّي لستُ سوداء؟

لاحقًا، اكتشفتُ أن الشباب في الجامعة يرون شيرين بالطريقة نفسها. ففي أحد المرّات، كنّا في باحة الجامعة نشاهد شيرين وآخرين يلعبون كرّة السلّة. اقترب أحد الشبّان من زميل لشيرين وسأله بعد أن رمقها باحتقار: “شو؟ شو وضعها هيدي السودا؟”. ولّدت كلماته أسئلةً كثيرةً في رأسي، وكان الجواب عليها واحداً: إنّهم لا يرونَ منّا إلّا لوننا.

زادت هذه المصطلحات من انعدام ثقتي بنفسي وجعلتني أرى نفسي قبيحة وغير مرغوبة. كنتُ أرى نظرات الشباب في الجامعة لغيري من الزميلات اللبنانيات ذوات البشرة البيضاء، ورغم معرفتي بأنّ “التلطيش” أمر سيء، إلّا أنني كنت أتمنّى أن “يُلطّشني” ولو شابٌ واحد. لكنّني تيقّنتُ بأنّهم لا يرونني سوى بصفةٍ واحدة: الفتاة السوداء.

1
مضت أكثر من عشرة أعوامٍ على آخر مرّةٍ رأيت فيها عمّتي قبل عودتي إلى أفريقيا. مع ذلك، كان استقبالها لي عند وصولي بارداً بعض الشيء. كنت أعرف أنّ السبب هو فضيحتي في سيراليون، ولذلك شعرت بكثيرٍ من الامتنان على قبولها استضافتي خلال فترة دراستي الجامعية.

على امتداد الطريق من المطار إلى بيتها، كنت أفكّر بالعبارات التي أطلقتها عليّ يوم أخبرها أبي بالحادثة. قلت لنفسي أنّ عليّ أن أحسن التصرّف لأكسب ثقتها وثقته مجدّداً لأمحو بذلك الصورة البشعة التي كوّنتها عنّي.

بعد الترحيب الباهت وتناول الغداء، بدأت عمتي فوراً بتلقيني واجباتي التي سبق وأن أبلغني بها والدي: يتوجّب عليّ أن أسمع كلمتها وأن أُعلِمها بكلّ تحركاتي، وبالطبع عليّ مساعدتها في أعمال المنزل، إضافةً إلى ذلك يُمنع عليّ استقبال أيٍّ من أصدقائي. ثمّ اقتربت منّي وقالت بصوتٍ منخفضٍ حازم: “حافظي على حالك، أعني هذا”، وأشارت إلى ما بين فخذَي، قبل أن تتابع قائلة: “خاصة بوضعك. أقصد أنكِ سمراء. يملك الناس هنا فكرةً سيئة عن السمراوات، لذا عليكِ المحافظة على نفسك”.

انتهى حفل الاستقبال. لم أفهم تماماً مغزى كلامها، ولا مقصدها من عبارة “وضعي أنا”. كنت أعلم أنّ عليّ بذل قصارى جهدي، وألّا أقترف أيّ خطأ قد يدفع أبي لإعادتي إلى سيراليون. كان قد هددني بأنّ أيّ عثرةٍ سترتد عليّ بعقابٍ لا يقارن بأيّ من العقوبات التي تعرّضت لها سابقاً.

في الأيام التالية، عاملتني عمتي بشيءٍ من اللؤم. كانت من جهةٍ تنتقد كلّ تصرّفاتي وتردّها إلى العرق الإفريقي، ومن جهةٍ ثانية قامت برمي كلّ الأعمال المنزلية فوق عاتقي، معتبرةً ذلك نوعاً من ردٍ لجميل استضافتها لي.

2
عشت طفولتي في بلدتي قانا. كُنت أخرج من المنزل صباح كلّ يومٍ، وأتسكع في شوارعها بحثاً عن أصدقاء أعوّض بهم عن غياب العائلة. آنذاك، كان الكثير من المارة ينهرونني لخروجي إلى الشارع وحيدة. يوقفون سيرهم ليسألوا: “لم أنتِ هنا؟ أليس لديكِ أهل؟ عودي إلى المنزل”.

تعرّضت خلال تلك الفترة للعديد من المواقف العنصرية، لكنّي لم أكن أتوقّع أنّني سأعود وأواجه المشكلة نفسها عندها عودتي وأنا صبيّةٌ في العشرين. لم أتخيّل مثلاً أنّ صديقات الطفولة سترفضن مرافقتي بسبب لون بشرتي، ولا أنّني سأضطّر للاختباء كي لا أستمرّ بسماع مصطلح “سيريلانكيّة” من أحد، وهي الكلمة التي اعتادوا إطلاقها على كلّ ذوي البشرة السمراء، أيّاً كانت جنسيتهم!

كانت العنصريّة سبباً رئيسياً لخجلي وانطوائي على نفسي بعد عودتي إلى لبنان.

في إحدى المرّات زارتنا جارةٌ لعمتي فدخلتُ لألقي عليها التحيّة، لكنّها توجهّت إلى عمتي وسألتها: “هل أحضرتم عاملة جديدة؟”. لم تكن تلك المرّة الوحيدة التي ظنّ فيها الناس أنّني عاملة منزلية، لذا كانوا يستغربون اتقاني للغة العربية وارتدائي الحجاب، وتزداد حيرتهم حين أخبرهم بأنّني لبنانيةٌ مثلهم. تبدّى لي سريعاً أنّه لا مفرّ أمامي من الإحساس بأنّني كائن دخيل على هذا المجتمع. فُرضت عليّ حياة الظلّ، فصرت أمتنع حتّى عن رمي القمامة في النهار كي لا يظنّني أحدٌ عاملةً أجنبية. مع ذلك استمرّ أبناء الجيران بمنادتي “يا سيريلانكية.. سودا، سودا، سيريلانكيّة”، في كلّ مرّة أكون فيها أنشر الغسيل على الشرفة.

3
كافحت كثيراً حتّى أقنعت أبي بالموافقة على إكمال دراستي الجامعية. في الليلة التي أبلغني فيها بموافقته، أحسست بأنّني وصلت إلى النور في آخر النفق المظلم. شعرت بأنّني قد صرت حرّة، وبأنّ حياتي قد بدأت الآن. قريباً، لن أسمع صوت أبي مجدّداً، ولن أستيقظ على شتائمه، وسأتحرّر من تسلّطه. كانت فرحتي أشبه بفرحة مريض وجد العلاج لمرضه العضال.

ظننت أنّ التحاقي بالجامعة سيمنحني الحريّة لصنع حياتي الجديدة، لكنّني سرعان ما اكتشفت أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، فلا سلطة أبي انتهت ولا حياتي الوردية بدأت.

في يومي الأوّل في الجامعة، استوقفني الحارس عند البوابة ليسألني: “لبنانية؟”. فاجأني سؤاله، لكنّني هززت رأسي بالموافقة وأريته البطاقة. رافقني هذا السؤال المتّهم والمشكّك بسبب لون بشرتي في كلّ مكان. ومع ذلك دائماً ما حاولت أن أتجاهله وأن أكمل يومي بشكل طبيعي. للوصول إلى الصف، كان عليّ اجتياز ممرٍ يفصل بين صفيّن من المقاعد الحديدية التي يجلس عليها الطلاب. مرّرت من دون أن أنظر إليهم، لكنّ تعليقاتهم وصلت إلى مسمعي: “من هذه السوداء؟”. التفتّ فرأيت أحدهم يشير بإصبعه نحوي قبل أن ينفجروا جميعهم بالضحك.

منعني إحساسي بأنّني غير مرغوبةٍ بسبب لوني من تكوين صداقاتٍ في البداية داخل الجامعة، وزاد من ذلك مظهري الخارجي الذي لم يكن يرضيني.

كان أبي يرسل لعمتي مبلغاً شهرياً كمصروفٍ لي، إلّا أنّها كانت تديره بصرامةٍ شديدة. في صباح كلّ يوم، تعطيني مبلغاً يكفي لأجرة التاكسي وتنكة “بيبسي”، حتّى أنّها كانت تقول أحياناً: “لا تشتري بيبسي، خذيها معكِ من المنزل”. لم تكن هي من تصرف عليّ، لكنهّا لم تكن تسمح لي بالتسوّق أو بشراء شيء لنفسي.

انعكس هذا التقنين سلباً على نظرتي إلى نفسي، خاصةً أنّني كنت أرى زميلاتي في الجامعة يرتدين ثياباً جديدةً ومختلفةً كلّ يوم. كنت أشعر بنظرتهن الدونيّة إليّ، وتعرضت للاستغلال من بعضهن، إذ كنّ يوكلن إليّ طباعة أبحاثهن ثمّ بعد ذلك يتجنّبنني فلا يردّن عليّ حتّى التحيّة.

كانت تلك العنصرية امتداداً للتجربة التي تعرّضت لها خلال دراستي الابتدائية في لبنان. كنت صيداً ثميناً وسهلاً للمتنمرين. لولاهم، كنت سأظلّ مقتنعة أنّني لبنانية مثل غيري، وأن شعري أجعد لأنّه احترق بفعل الأدوية، وأن بشرتي سمراء غامقة لأنني تعرّضت لأشعّة الشمس طويلاً. كان التنمّر في المدرسة هو السبب الذي جعلني أنتبه إلى أنّني مختلفةٌ عنهم. رفض بعضهم الجلوس إلى جانبي في الصف، وقالوا للمعلمة: “لا نريد الجلوس بالقرب من الفتاة السوداء”، وحتى أولئك الذين وافقوا على اللعب معي ثابروا على نقل الكلمات الجارحة التي كانوا يسمعونها عنّي إليّ.

كان شعري وحده كافياً لأعاني من التنمّر. كانوا يصفونه بـ”جبّ البلّان” و”السِّيف”. وزادت من معاناتي إصابتي بالقمل وأنا طفلة.

لم أكن أهتم كثيراً بشعري، ولم يكن لديّ أمٌّ لتهتم بي. اضطرّت عمّتي وقتها إلى حلق شعري بالكامل، فكان عليّ أن أرتدي قبّعةً لأخفي الأمر. لكنّني لم أنجح بالحفاظ على سرّي لوقتٍ طويل، ففيما كنت في باص المدرسة يوماً، سألني أحد التلامذة عن سبب ارتدائي للقبعة وطلب منّي نزعها. عندما رفضت ذلك قام الأولاد بنزعها غصباً عنّي، وراحوا يلعبون بها وهم ينادونني “حسن صبي”.

لاحقتني حشريّة الطلّاب دائماً، حول لوني وشعري وأمّي. كنت أخبر زملائي أنّ أمّي قد توفّيت لأكسب تعاطفهم وأسلم من التعليقات الجارحة. استمرّت هذه الحشريّة في الجامعة، فكثيراً ما كانت تُطرح عليّ أسئلة من نوع: “من أين جئت؟ شكلك من أفريقيا؟ أين أهلك؟ أين تقيمين؟”.

على الرغم من ذلك، بقيت مصرّة على إثبات نفسي في الجامعة. كان إتقاني للغة الإنجليزية ولكنتي الصحيحة سلاحي الخفّي الذي فتح الباب أمامي لاكتساب الاحترام رغم استمرار نظرات الاحتقار في عيون بعض زملائي.

4
أحببت المسرح منذ كنت طفلة، ورأيت في نفسي الجرأة على الوقوف على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور بكل ثقة واندفاع. لكنّني لم أسلم هناك أيضاً من العنصرية.

اختارتني المعلّمة في المدرسة للمشاركة في مسرحيةِ صفّنا، وأسندت إليّ وقتها دور الشخصيّة الشريرة. في يوم العرض، كان من الصعب تمييزنا عن بعضنا، فقد كان الجميع يرتدي الأقنعة، لكن كان من الصعب عليّ أن أخفي شعري المجعّد تحت القبعة. بمجرّد ظهوري على الخشبة، انفجر الجمهور بالضحك. حاولت أن أزمجر وأن أرفع صوتي لأقنعهم بأنّني الوحش لكنّ ذلك زاد من ضحكاتهم.

لاحقاً، أخبرتني زميلتي أنّ شعري كان مضحكاً وجعلني أبدو كمن صعقتها الكهرباء.

تكرّر ذلك مجدّداً في الجامعة، حين طُلب منّا في أحد الصفوف أن نختار بلداً معيّناً لنقدّم عرضاً عن ثقافته. وقع اختياري على الهند، إذ كانت لي صديقاتٌ من أبٍ لبناني وأمٍّ هنديّة وكنت أعرف الكثير عن ثقافة هذه البلاد.

تحضّرت للعرض جيّداً، وارتديت السّاري، زيّ النساء الهنديات التقليدي. وعندما اجتزتُ بوابة الجامعة واجهتني نظرات الطلّاب المستغربة، وتعليقاتهم الجارحة: “هل أصبح هناك طلّاب سيريلانكيون في الجامعة؟”.

ابتلعت حزني وغضبي وخجلي وعبرت بينهم بصمت. أثناء تقديمي العرض كنتُ أرى نظرات الطلّاب المستهزئة وكيف يتضاحكون سرًّا. مع ذلك أجبرت نفسي على التزام الهدوء وإنهاء أدائي الذي تكللّ بمديحٍ من الأستاذة المشرفة وتعليقاتٍ عنصريّةٍ من الطلاب.

5
على الرغم من التنمّر الذي تعرضّت له في صغري إلّا أنّ رغبتي باللعب كأيّ طفلة في سنّي كان أكبر، وبالتالي كنت أختلط مع الأطفال اللبنانيين. لكن الأمور تختلف في مرحلة الشباب، ويصير من الصعب تجاهل نظرة الآخرين لنا. ربّما لهذا السبب صرت صديقة لشيرين في الجامعة، فهي مثلي من أمّ أفريقية وأب لبناني.

في إحدى المرّات قامت بزيارتي، وبعد مغادرتها قالت لي عمتي بارتياح شديد: “احمدي الله أنّك لستِ مثلها، إنها أكثر سواداً منكِ، فأنتِ لون بشرتك فاتح، الحمدلله”. شعرتُ بالغيظ ولكنّي سكتت. لم عليّ أن أحمد الله على أنّي لستُ سوداء؟

لاحقًا، اكتشفتُ أن الشباب في الجامعة يرون شيرين بالطريقة نفسها. ففي أحد المرّات، كنّا في باحة الجامعة نشاهد شيرين وآخرين يلعبون كرّة السلّة. اقترب أحد الشبّان من زميل لشيرين وسأله بعد أن رمقها باحتقار: “شو؟ شو وضعها هيدي السودا؟”. ولّدت كلماته أسئلةً كثيرةً في رأسي، وكان الجواب عليها واحداً: إنّهم لا يرونَ منّا إلّا لوننا.

زادت هذه المصطلحات من انعدام ثقتي بنفسي وجعلتني أرى نفسي قبيحة وغير مرغوبة. كنتُ أرى نظرات الشباب في الجامعة لغيري من الزميلات اللبنانيات ذوات البشرة البيضاء، ورغم معرفتي بأنّ “التلطيش” أمر سيء، إلّا أنني كنت أتمنّى أن “يُلطّشني” ولو شابٌ واحد. لكنّني تيقّنتُ بأنّهم لا يرونني سوى بصفةٍ واحدة: الفتاة السوداء.

عندما ارتديتُ الحجاب شعرتُ أنّني قبيحةٌ جدًّا. لم يدعمني أحد ولم أسمع أي عباراتٍ مثل "يليق بك الحجاب"، لكنّي سمعتُ أبي يطري على بنات الجالية اللبنانية ويمدح سلوكهنّ وحجابهن الذي يزيدهنّ جمالاً.

6
في الحقيقة، كان أبي مدخلي للتعرّف على العنصرية في المجتمع اللبناني، والسبب الأوّل في إحساسي بأنّني دخيلة ومختلفة. نعم، أبي! كانت مرحلة المراهقة التي يحتاج فيها الأبناء للدعم والتشجيع أسوأ مرحلةٍ في حياتي.

بعد أن بدأت تظهر عليّ علامات البلوغ طفت هواجس أبي من العرق الثاني الذي أحمله، عرقي الأفريقي. اعتدت وقتها سماع تعليقاته الجارحة عن شكل أردافي، ومشيتي، وصوتي، وأنفي، وشفتاي. كان يقول لي “إنكِ تشبهين الأفارقة، تحملين دمهم وتتصرفين مثلهم”.

أطلق والدي عليّ الكثير من الألقاب والأحكام النمطيّة والعنصريّة، لكنّه لم يكن الوحيد في ذلك. دائماً ما سمعت أبناء الجالية اللبنانية في سيراليون يقولون عنّي أنّي “شلخة”، وقالوا لأبي “عندما تكبر ستغدو “شقفة””. على الرغم من صغر سنّي كانت نظرتهم إليّ نظرةً جنسيّة فقط. بالنسبة إليهم، كل فتاةٍ أو امرأةٍ مختلطة، هي امرأةٌ سهلة المنال وأداة للجنس فقط، وهذا ما زاد من قسوة أبي.

أرغمتُ على ارتداء الحجاب بعد بلوغي بفترة، حين كنت أتابع دراستي الثانوية في سيراليون. لم يكن الالتزام الديني دافع أبي لذلك، فهو كان يطري على قريباتي غير المحجبات حين يرتدين ثياب البحر. لكنّخ أراد أن يراني أفراد الجالية في قالبٍ لبناني، أيْ أن يُفهمهم أنني لست “منحرفةً وعاهرةً” كما يُنظر إلى الفتيات الأفريقيات، وأنّني تحتَ سيطرته.

لم يرغب بأن يقول الناس عنّي “ابنة فلان تتصرّف كالعبيد”، وطالما أنّ قريناتي اللبنانيات محجبّات كان عليّ أن أتحجّب أيضًا.

عندما ارتديتُ الحجاب شعرتُ أنّني قبيحةٌ جدًّا. لم يدعمني أحد ولم أسمع أي عباراتٍ مثل “يليق بك الحجاب”، لكنّي سمعتُ أبي يطري على بنات الجالية اللبنانية ويمدح سلوكهنّ وحجابهن الذي يزيدهنّ جمالاً. كان وزوجته يقدّران رفيقتي اللبنانية هدى أكثر ممّا يقدّرانني، ودائما ما يطلبان منّي تقليدها في سلوكي وملبسي. يقولان: “خبزت هدى الكيك، وأنتِ ماذا صنعتِ؟ سيتقدّم لخطبتها فلّان، فماذا عنك؟”. كنت أردّ بأنّني متفوّقة في المدرسة ومثابرة في الدرس، لكنّ ذلك لم يعنِ لهما شيئاً.

سبّبت لي هدى الكثير من المتاعب وزادت من إحساسي بأنني مهمّشةٌ وغير مرغوب بي. كانت الفتاة اللبنانية الجميلة ذات البشرة البيضاء التي يتقاتل على خطبتها الشباب اللبنانيون، ممّا جعل والدي متوجّساً من فكرة عنوستي. كان يقول: “من سيتزوجكِ؟ لم يتقدّم لخطبتك أحد على العكس من هدى”. في إحدى المرّات قال لي إنّه من الجيّد امتلاكي لشهادةٍ جامعية تعينني في حياتي بعد وفاته لأنّني لن أجد أحداً ليتزوّجني.

دفعني فرض الحجاب عليّ لأن أعيش حياتين مختلفتين. في المدرسة كنتُ أشبه نفسي، مراهقةٌ تعيش حياتها بعيدةً عن العنصرية اللبنانية بحقّي. كانت رفيقاتي من جنسياتٍ مختلفة ومن بنات البلد اللواتي يمتلكن بشرةً سوداء. شعرت بينهن أنّني وسط مجموعةٍ تقدّرني وتحبنّي لشخصي، فكنتُ معروفة في المدرسة ومميزّة.

خلال الدوام كنتُ أرخي حجابي قليلًا، أدفعه للوراء وأظهر قسماً من شعري، وعندما يحين موعد العودة إلى المنزل أعيد ربطه بإحكام كي أسلم من تعنيف أبي. لكن، كان عليّ لأحظى بهذه الحريّة الجزئية أن أرافق الفتيات اللبنانيات من وقتٍ لآخر، وخصوصاً هدى، وذلك لكي لا يخبروا أهلي بما أفعله.

7
عند عودتي من الجامعة في أحد الأيّام وجدت واحدةً من صديقات عمّتي تزورنا في البيت. حيّيتها واستأذنت لتحضير الضيافة، فسمعتها تقول لعمتي أنّه بحسب الدين والشرع لا يزوج لرجلٍ مسلم الزوّاج منّي، لأنّي “بنت حرام” أي “بنت زنا”. سألتها عمتي عن مصدر المعلومة فأجابت بثقة: “هذا ما سمعته من أحد الشيوخ. قال أنّه لا يجوز الزواج من الفتيات من زيجاتٍ مختلطة بين اللبنانيين والسود لأنّهن بنات حرامٍ ونجسات”. ردّت عمّتي بالقول أنّ الذنب ليس ذنبي. عندها وجدت نفسي مجبرةً على الدفاع عن نفسي، وأخبرت عمّتي أنّ ما تقوله ضيفتها مجرّد معلوماتٍ خاطئة.

كنت أعرف بعض التفاصيل عن علاقة أبي وأمي. كانت والدتي صديقةً لعماتي، وهكذا تعرّفت إلى أبي ونشأت بينهما قصّة حب. تحوّل الأمر إلى مصيبة عندما اكتشفت أمّي أنّها حاملٌ بي، ليس فقط لأنّها كانت طالبة ثانوية في السابعة عشر من العمر وحسب، بل لأنّها حاملٌ من شاب لبناني أبيض، وهو ما لم يكن ليتقبله مجتمعها المحلي بسبب معاناة الناس من الاستعمار والعنصرية.

تخوّف أهل والدتي من أن يكون والدي قد اغتصبها، لذا قام جدّي لوالدتي وكان صيدلياً معروفاً ويملك أقرباء في الجيش، بحبس أبي لبعض الوقت. في النهاية أعلن أبي نيّته الزواج من أمي على سنّة الله ورسوله، واعترف بي ابنة له. أخيراً تمّ الزواج، لكنّني لم أعرف إن كان قد أعلنه للناس أم أنه كان على نطاق العائلتين فقط.

رفض بعض أعمامي فكرة أن يعترف والدي بي، معتبرين أنّني سأجلب له المتاعب وأنّني سأجلب العار للعائلة، مثل أمّي. لم نكن عائلةً طبيعية، إذ لم يسكن والداي سوياً. كنت أقضي يومي في بيت عمّي مع ابنته قبل أن أعود إلى أحضان أمّي ليلاً في بيت أهلها.

عندما بدأت الحرب الأهلية في سيراليون، حيث كنّا نسكن، قرّر والدي إرسالي إلى لبنان. رفضت أمّي أن أبتعد عنها وأبلغته أنّه لا يسعها العيش بدوني، لكن كان لعائلتها رأيٌ آخر. لم يكن بمقدورهم تحمّل عبء مصروف فردٍ آخر، لذا أقنعوها بأنّ أبي سيؤمن لي حياة أفضل من التي سأحصل عليها بينهم، وشجّعوها على الالتفات إلى حياتها إذ أنها شابةٌ في مقتبل العمر وأمامها فرصةٌ لإكمال دراستها.

عدا عن كلّ ذلك، كانت حالات العنف واغتصاب النساء خلال الحرب سبباً إضافياً لتراجع أمّي عن إبقائي بجانبها.

بدا الرحيل آنذاك الخيار الأفضل.

في السنوات اللاحقة، كان أبي يكرر لي مراراً أنّه دفع لأمي مبلغاً من المال لكي توافق على سفري إلى لبنان، لكنّني عرفت منها أنّ ما دفعه لها كان مهرها المتّفق عليه، لا مقابلاً للتنازل عن حضانتي. كان أبي يحب أحياناً أن يظهر بمظهر البطل الذي أنقذني من حياة الفقر والضلال في سيراليون ليهبني حياة أفضل، يقول لي: “لولا حبّي لكِ لكنت برفقة أمك بين العبيد في أفريقيا”.

كان عليّ أن أحسّ دائماً بالامتنان له ولعائلته على قيامهم بواجباتهم نحوي، كما لو أنّهم يفعلون ذلك صدقةً ومعروفاً. انطبق الأمر نفسه على عمّتي، فهي وإن رضيت باستقبالي ودعمتني في مواقف عديدة، إلّا أنّها لم تتوانَ عن تذكيري دائماً، عن قصدٍ وغير قصد، بأنّني غريبةٌ وأقلّ شأناً منهم. كنت أدفع ثمن ما فعله أبي. أنا الدليل على خطيئته التي لا تغتفر، فلولاي لما علم أحدٌ بأنّه أقام علاقةً خارج الزواج مع امرأةٍ سوداء.

6
في الحقيقة، كان أبي مدخلي للتعرّف على العنصرية في المجتمع اللبناني، والسبب الأوّل في إحساسي بأنّني دخيلة ومختلفة. نعم، أبي! كانت مرحلة المراهقة التي يحتاج فيها الأبناء للدعم والتشجيع أسوأ مرحلةٍ في حياتي.

بعد أن بدأت تظهر عليّ علامات البلوغ طفت هواجس أبي من العرق الثاني الذي أحمله، عرقي الأفريقي. اعتدت وقتها سماع تعليقاته الجارحة عن شكل أردافي، ومشيتي، وصوتي، وأنفي، وشفتاي. كان يقول لي “إنكِ تشبهين الأفارقة، تحملين دمهم وتتصرفين مثلهم”.

أطلق والدي عليّ الكثير من الألقاب والأحكام النمطيّة والعنصريّة، لكنّه لم يكن الوحيد في ذلك. دائماً ما سمعت أبناء الجالية اللبنانية في سيراليون يقولون عنّي أنّي “شلخة”، وقالوا لأبي “عندما تكبر ستغدو “شقفة””. على الرغم من صغر سنّي كانت نظرتهم إليّ نظرةً جنسيّة فقط. بالنسبة إليهم، كل فتاةٍ أو امرأةٍ مختلطة، هي امرأةٌ سهلة المنال وأداة للجنس فقط، وهذا ما زاد من قسوة أبي.

أرغمتُ على ارتداء الحجاب بعد بلوغي بفترة، حين كنت أتابع دراستي الثانوية في سيراليون. لم يكن الالتزام الديني دافع أبي لذلك، فهو كان يطري على قريباتي غير المحجبات حين يرتدين ثياب البحر. لكنّخ أراد أن يراني أفراد الجالية في قالبٍ لبناني، أيْ أن يُفهمهم أنني لست “منحرفةً وعاهرةً” كما يُنظر إلى الفتيات الأفريقيات، وأنّني تحتَ سيطرته.

لم يرغب بأن يقول الناس عنّي “ابنة فلان تتصرّف كالعبيد”، وطالما أنّ قريناتي اللبنانيات محجبّات كان عليّ أن أتحجّب أيضًا.

عندما ارتديتُ الحجاب شعرتُ أنّني قبيحةٌ جدًّا. لم يدعمني أحد ولم أسمع أي عباراتٍ مثل “يليق بك الحجاب”، لكنّي سمعتُ أبي يطري على بنات الجالية اللبنانية ويمدح سلوكهنّ وحجابهن الذي يزيدهنّ جمالاً. كان وزوجته يقدّران رفيقتي اللبنانية هدى أكثر ممّا يقدّرانني، ودائما ما يطلبان منّي تقليدها في سلوكي وملبسي. يقولان: “خبزت هدى الكيك، وأنتِ ماذا صنعتِ؟ سيتقدّم لخطبتها فلّان، فماذا عنك؟”. كنت أردّ بأنّني متفوّقة في المدرسة ومثابرة في الدرس، لكنّ ذلك لم يعنِ لهما شيئاً.

سبّبت لي هدى الكثير من المتاعب وزادت من إحساسي بأنني مهمّشةٌ وغير مرغوب بي. كانت الفتاة اللبنانية الجميلة ذات البشرة البيضاء التي يتقاتل على خطبتها الشباب اللبنانيون، ممّا جعل والدي متوجّساً من فكرة عنوستي. كان يقول: “من سيتزوجكِ؟ لم يتقدّم لخطبتك أحد على العكس من هدى”. في إحدى المرّات قال لي إنّه من الجيّد امتلاكي لشهادةٍ جامعية تعينني في حياتي بعد وفاته لأنّني لن أجد أحداً ليتزوّجني.

دفعني فرض الحجاب عليّ لأن أعيش حياتين مختلفتين. في المدرسة كنتُ أشبه نفسي، مراهقةٌ تعيش حياتها بعيدةً عن العنصرية اللبنانية بحقّي. كانت رفيقاتي من جنسياتٍ مختلفة ومن بنات البلد اللواتي يمتلكن بشرةً سوداء. شعرت بينهن أنّني وسط مجموعةٍ تقدّرني وتحبنّي لشخصي، فكنتُ معروفة في المدرسة ومميزّة.

خلال الدوام كنتُ أرخي حجابي قليلًا، أدفعه للوراء وأظهر قسماً من شعري، وعندما يحين موعد العودة إلى المنزل أعيد ربطه بإحكام كي أسلم من تعنيف أبي. لكن، كان عليّ لأحظى بهذه الحريّة الجزئية أن أرافق الفتيات اللبنانيات من وقتٍ لآخر، وخصوصاً هدى، وذلك لكي لا يخبروا أهلي بما أفعله.

7
عند عودتي من الجامعة في أحد الأيّام وجدت واحدةً من صديقات عمّتي تزورنا في البيت. حيّيتها واستأذنت لتحضير الضيافة، فسمعتها تقول لعمتي أنّه بحسب الدين والشرع لا يزوج لرجلٍ مسلم الزوّاج منّي، لأنّي “بنت حرام” أي “بنت زنا”. سألتها عمتي عن مصدر المعلومة فأجابت بثقة: “هذا ما سمعته من أحد الشيوخ. قال أنّه لا يجوز الزواج من الفتيات من زيجاتٍ مختلطة بين اللبنانيين والسود لأنّهن بنات حرامٍ ونجسات”. ردّت عمّتي بالقول أنّ الذنب ليس ذنبي. عندها وجدت نفسي مجبرةً على الدفاع عن نفسي، وأخبرت عمّتي أنّ ما تقوله ضيفتها مجرّد معلوماتٍ خاطئة.

كنت أعرف بعض التفاصيل عن علاقة أبي وأمي. كانت والدتي صديقةً لعماتي، وهكذا تعرّفت إلى أبي ونشأت بينهما قصّة حب. تحوّل الأمر إلى مصيبة عندما اكتشفت أمّي أنّها حاملٌ بي، ليس فقط لأنّها كانت طالبة ثانوية في السابعة عشر من العمر وحسب، بل لأنّها حاملٌ من شاب لبناني أبيض، وهو ما لم يكن ليتقبله مجتمعها المحلي بسبب معاناة الناس من الاستعمار والعنصرية.

تخوّف أهل والدتي من أن يكون والدي قد اغتصبها، لذا قام جدّي لوالدتي وكان صيدلياً معروفاً ويملك أقرباء في الجيش، بحبس أبي لبعض الوقت. في النهاية أعلن أبي نيّته الزواج من أمي على سنّة الله ورسوله، واعترف بي ابنة له. أخيراً تمّ الزواج، لكنّني لم أعرف إن كان قد أعلنه للناس أم أنه كان على نطاق العائلتين فقط.

رفض بعض أعمامي فكرة أن يعترف والدي بي، معتبرين أنّني سأجلب له المتاعب وأنّني سأجلب العار للعائلة، مثل أمّي. لم نكن عائلةً طبيعية، إذ لم يسكن والداي سوياً. كنت أقضي يومي في بيت عمّي مع ابنته قبل أن أعود إلى أحضان أمّي ليلاً في بيت أهلها.

عندما بدأت الحرب الأهلية في سيراليون، حيث كنّا نسكن، قرّر والدي إرسالي إلى لبنان. رفضت أمّي أن أبتعد عنها وأبلغته أنّه لا يسعها العيش بدوني، لكن كان لعائلتها رأيٌ آخر. لم يكن بمقدورهم تحمّل عبء مصروف فردٍ آخر، لذا أقنعوها بأنّ أبي سيؤمن لي حياة أفضل من التي سأحصل عليها بينهم، وشجّعوها على الالتفات إلى حياتها إذ أنها شابةٌ في مقتبل العمر وأمامها فرصةٌ لإكمال دراستها.

عدا عن كلّ ذلك، كانت حالات العنف واغتصاب النساء خلال الحرب سبباً إضافياً لتراجع أمّي عن إبقائي بجانبها.

بدا الرحيل آنذاك الخيار الأفضل.

في السنوات اللاحقة، كان أبي يكرر لي مراراً أنّه دفع لأمي مبلغاً من المال لكي توافق على سفري إلى لبنان، لكنّني عرفت منها أنّ ما دفعه لها كان مهرها المتّفق عليه، لا مقابلاً للتنازل عن حضانتي. كان أبي يحب أحياناً أن يظهر بمظهر البطل الذي أنقذني من حياة الفقر والضلال في سيراليون ليهبني حياة أفضل، يقول لي: “لولا حبّي لكِ لكنت برفقة أمك بين العبيد في أفريقيا”.

كان عليّ أن أحسّ دائماً بالامتنان له ولعائلته على قيامهم بواجباتهم نحوي، كما لو أنّهم يفعلون ذلك صدقةً ومعروفاً. انطبق الأمر نفسه على عمّتي، فهي وإن رضيت باستقبالي ودعمتني في مواقف عديدة، إلّا أنّها لم تتوانَ عن تذكيري دائماً، عن قصدٍ وغير قصد، بأنّني غريبةٌ وأقلّ شأناً منهم. كنت أدفع ثمن ما فعله أبي. أنا الدليل على خطيئته التي لا تغتفر، فلولاي لما علم أحدٌ بأنّه أقام علاقةً خارج الزواج مع امرأةٍ سوداء.

اعتادت عمّتي أن تمازحني كلّما أردت الخروج خلال ساعات النهار: "لا داعي لذلك، ستسودّين. وأنتِ لا ينقصكِ ذلك". أما خالتي، زوجة أبي، فكانت تقول لي أحياناً: "تشبهين الأفارقة. على الرغم من أنّك نحيفة إلّا أنّ مؤخّرتك كبيرةٌ مثل نسائهنّ".

8
– “من هذه الفتاة؟”.

– “كان أخي لعوباً فجاءنا بها من أفريقيا”.

كان ذلك جواب عمّتي على سؤال أحد أقرباء زوجها عنّي حين كنت على الشاطئ برفقتهم يوماً. يومها استنكرت ابنتها ما قالته، لكنّ الآخرين اعتبروها مجرّد عبارة تقال، من دون أيّ اعتبارٍ لمشاعري.

بالنسبة لعمّتي، لم أكن أكثر من غرضٍ أو حقيبةٍ أتتهم عن طريق الخطأ من أفريقيا من دون أن يقدروا على التخلّص منها أو إخفاءها.

من جهة أخرى، ألصقت العائلة كلّ سلوكياتي التي لا تعجبهم بأمّي، وكل خطأ أقترفه ربطوه بالعرق الأسود المنحرف والبشع الذي أحمله. حتى شكلي الخارجي كان محطّ تنمّر الجميع لا سيّما أبي. كان دائماً ما يمسكني من أنفي ويردّد مازحاً: “أنفك كبير”. وإن مشيت حافية القدمين كان يقول لي: “تحبين المشي حافية كالأفارقة، وقدماك كبيرتان مثل أقدامهم”. بالطريقة نفسها اعتادت عمّتي أن تمازحني كلّما أردت الخروج خلال ساعات النهار: “لا داعي لذلك، ستسودّين. وأنتِ لا ينقصكِ ذلك”. أما خالتي، زوجة أبي، فكانت تقول لي أحياناً: “تشبهين الأفارقة. على الرغم من أنّك نحيفة إلّا أنّ مؤخّرتك كبيرةٌ مثل نسائهنّ”.

لم أجد في بيئةٍ كهذه باباً لكي أحبّ نفسي وجسدي، وصرت أنظر لذاتي على أنّني أدنى من الآخرين.

9
في صيف العام 2013 جئت برفقة زوجة أبي إلى لبنان. خلال هذه الزيارة دعاها أقاربها لتناول الغداء على الشاطئ وأصرّت عليّ أن أرافقها. في ذلك اليوم التقيت بهادي، قريب خالتي. تحدّثنا مطوّلاً عن الكتب، وبعد رجوعي إلى البيت تفاجأت بتلقّي طلب صداقةٍ منه على فايسبوك. تطوّرت علاقتنا سريعاً، وبعد مدّة أخبرني أنّه يحبّني.

كانت تلك أول مرّة أتعرّف فيها على شاب لبناني، لذا عنى لي اعترافه بالحب الكثير. أنا التي علمني الجميع أن أكره نفسي وأن أنظر لها بدونية، أنا كما أنا، بلون بشرتي وجسدي وأنفي، نلت إعجاب شابٍ لبناني. خلت نظرة هادي إليّ من العنصريّة ولم يرني كأداةٍ جنسيّة بل أحبّني لشخصي.

لكنّ فرحتي لم تدم طويلاً.

بحكم القرابة التي تجمعه بخالتي كان من الطبيعي أن نلتقي خلال الزيارات العائلية، حيث كنّا نجلس ونتحدّث سوياً. مع مرور الوقت، لاحظ الجميع أنّ هناك علاقةً قويّةً تجمعنا وذلك لم يرق لخالتي التي قالت لي: “ابقي بعيدةً عن عائلتي. لا أريدك أن تسبّبي لهم المشاكل”. لَمْ أفهم لِمَ رفضت علاقتي بهادي. إن كانت تعتبرني حقّاً ابنةً لها، لماذا سترفض أن أرتبط بشخصٍ على قرابةٍ بها؟

سريعاً أتاني الجواب من “جدتي”، أيّ والدة خالتي: “لأنك لقيطة وابنة حرام”. فهمت عندها أنّ هذه المرأة، التي لطالما اعتقدت أنّها تحبني كما تحب أولاد ابنتها، تكرهني.

كانت تلك المرّة الأولى التي أنظر فيها إلى نفسي كلقيطة، على الرغم من أنّني معروفة النسب من ناحية الأم والأب معاً. لم أكن قد فكرت بذلك قبل تلك اللحظة، وامتلأ رأسي بالشكوك: هل أنا ابنة زنا فعلاً؟ هل تزوّج أبي بأمّي حقا؟

لم تكتف والدة خالتي بذلك، بل تكلّمت مع هادي وأخبرته بحادثة المدرسة، ووصفتني بأنّني “عبدةٌ سوداء”، لا أليق به وبالعائلة، وقالت له: “لقد ضاجعها الأفارقة في حمّام المدرسة، فابتعد عنها”.

صُدمت عندما عرفت بأنّها قالت ذلك عنّي أمام الشاب الذي أحبّه. أخبرت عمّتي بما قالته، فاستنكرت كلامها وحاولت أن تخفّف عنّي، لكن ألمي كان كبيراً. مع ذلك لم أخبر أبي بما حدث. تفاديت ذلك خشية أن أتسبّب بخلاف بينه وبين زوجته. كانت قد تلقّت ما يكفي من اللوم وقت حادثة المدرسة، إذ ألقى عليها بالمسؤولية آنذاك وهدّدها بالطلاق قائلاً: “أنتِ السبب! لم تحسني تربيتها لأنّها ليست ابنتك”.

8
– “من هذه الفتاة؟”.

– “كان أخي لعوباً فجاءنا بها من أفريقيا”.

كان ذلك جواب عمّتي على سؤال أحد أقرباء زوجها عنّي حين كنت على الشاطئ برفقتهم يوماً. يومها استنكرت ابنتها ما قالته، لكنّ الآخرين اعتبروها مجرّد عبارة تقال، من دون أيّ اعتبارٍ لمشاعري.

بالنسبة لعمّتي، لم أكن أكثر من غرضٍ أو حقيبةٍ أتتهم عن طريق الخطأ من أفريقيا من دون أن يقدروا على التخلّص منها أو إخفاءها.

من جهة أخرى، ألصقت العائلة كلّ سلوكياتي التي لا تعجبهم بأمّي، وكل خطأ أقترفه ربطوه بالعرق الأسود المنحرف والبشع الذي أحمله. حتى شكلي الخارجي كان محطّ تنمّر الجميع لا سيّما أبي. كان دائماً ما يمسكني من أنفي ويردّد مازحاً: “أنفك كبير”. وإن مشيت حافية القدمين كان يقول لي: “تحبين المشي حافية كالأفارقة، وقدماك كبيرتان مثل أقدامهم”. بالطريقة نفسها اعتادت عمّتي أن تمازحني كلّما أردت الخروج خلال ساعات النهار: “لا داعي لذلك، ستسودّين. وأنتِ لا ينقصكِ ذلك”. أما خالتي، زوجة أبي، فكانت تقول لي أحياناً: “تشبهين الأفارقة. على الرغم من أنّك نحيفة إلّا أنّ مؤخّرتك كبيرةٌ مثل نسائهنّ”.

لم أجد في بيئةٍ كهذه باباً لكي أحبّ نفسي وجسدي، وصرت أنظر لذاتي على أنّني أدنى من الآخرين.

9
في صيف العام 2013 جئت برفقة زوجة أبي إلى لبنان. خلال هذه الزيارة دعاها أقاربها لتناول الغداء على الشاطئ وأصرّت عليّ أن أرافقها. في ذلك اليوم التقيت بهادي، قريب خالتي. تحدّثنا مطوّلاً عن الكتب، وبعد رجوعي إلى البيت تفاجأت بتلقّي طلب صداقةٍ منه على فايسبوك. تطوّرت علاقتنا سريعاً، وبعد مدّة أخبرني أنّه يحبّني.

كانت تلك أول مرّة أتعرّف فيها على شاب لبناني، لذا عنى لي اعترافه بالحب الكثير. أنا التي علمني الجميع أن أكره نفسي وأن أنظر لها بدونية، أنا كما أنا، بلون بشرتي وجسدي وأنفي، نلت إعجاب شابٍ لبناني. خلت نظرة هادي إليّ من العنصريّة ولم يرني كأداةٍ جنسيّة بل أحبّني لشخصي.

لكنّ فرحتي لم تدم طويلاً.

بحكم القرابة التي تجمعه بخالتي كان من الطبيعي أن نلتقي خلال الزيارات العائلية، حيث كنّا نجلس ونتحدّث سوياً. مع مرور الوقت، لاحظ الجميع أنّ هناك علاقةً قويّةً تجمعنا وذلك لم يرق لخالتي التي قالت لي: “ابقي بعيدةً عن عائلتي. لا أريدك أن تسبّبي لهم المشاكل”. لَمْ أفهم لِمَ رفضت علاقتي بهادي. إن كانت تعتبرني حقّاً ابنةً لها، لماذا سترفض أن أرتبط بشخصٍ على قرابةٍ بها؟

سريعاً أتاني الجواب من “جدتي”، أيّ والدة خالتي: “لأنك لقيطة وابنة حرام”. فهمت عندها أنّ هذه المرأة، التي لطالما اعتقدت أنّها تحبني كما تحب أولاد ابنتها، تكرهني.

كانت تلك المرّة الأولى التي أنظر فيها إلى نفسي كلقيطة، على الرغم من أنّني معروفة النسب من ناحية الأم والأب معاً. لم أكن قد فكرت بذلك قبل تلك اللحظة، وامتلأ رأسي بالشكوك: هل أنا ابنة زنا فعلاً؟ هل تزوّج أبي بأمّي حقا؟

لم تكتف والدة خالتي بذلك، بل تكلّمت مع هادي وأخبرته بحادثة المدرسة، ووصفتني بأنّني “عبدةٌ سوداء”، لا أليق به وبالعائلة، وقالت له: “لقد ضاجعها الأفارقة في حمّام المدرسة، فابتعد عنها”.

صُدمت عندما عرفت بأنّها قالت ذلك عنّي أمام الشاب الذي أحبّه. أخبرت عمّتي بما قالته، فاستنكرت كلامها وحاولت أن تخفّف عنّي، لكن ألمي كان كبيراً. مع ذلك لم أخبر أبي بما حدث. تفاديت ذلك خشية أن أتسبّب بخلاف بينه وبين زوجته. كانت قد تلقّت ما يكفي من اللوم وقت حادثة المدرسة، إذ ألقى عليها بالمسؤولية آنذاك وهدّدها بالطلاق قائلاً: “أنتِ السبب! لم تحسني تربيتها لأنّها ليست ابنتك”.

وصلت إلى المستشفى بثيابٍ ملطخةٍ بالدماء التي كانت تسيل من شفتيّ ووجهي المتورّم. دخلنا عيادة الطبيب فراح الناس يسألوننا إن كنت قد تعرّضت للاغتصاب، نفى أبي ذلك بحزم فلم يقل أحدٌ بعد ذلك شيئاً.

10
لم يكن ما حدث في المدرسة في شهر آذار من العام 2009 حدثاً عابراً، بل لحظة انقلبت بعدها حياتي. قالوا إني ارتكبتُ خطئاً فادحاً وقتها، لكنّني الآن أفكّر أنّ ذلك كان من الممكن أن يحدث مع أيّ فتاةٍ أخرى من عمري. لكن، وكالعادة، رُبط الحادث بهويتي الثانية، واعتبر الناس أنّ ذلك متوقعٌ بسبب أمّي الأفريقية “وجيناتها”، وقال بعضهم أنّه من الجيد أنّ خطأي اقتصر على ذلك. كما لو أنّ اقترافي للخطأ محتّم بسبب جيناتي المختلطة.

صُوّر الأمر بطريقةٍ تظهر كلّ بنات الجالية اللبنانيات صالحات وأنا السيئة التي سوّدت وجه أبي.

كنت في الصف التاسع، ولم يكن قد مرّ وقت طويلٌ على ارتدائي الحجاب من دون رغبةٍ منّي في ذلك. كنت أحكمه في حضور أبي وأرخيه في المدرسة، وفي ذهني يدور صراعٌ داخلي بين ما أريد أن أكونه وما أنا عليه في الحقيقة: فتاةٌ مكسورة، يُلحق والدها وصف العاهرة باسمها في كل حين.

دفعتني مراهقتي الصعبة لمرافقة الشبّان في المدرسة. كانت أيّ عبارةٍ من قبيل “أنتِ جميلة” كافيةً لأقع في حب أيّ شاب. كنت بحاجةٍ لأنّ أشعر بأنّني محط اهتمامٍ وإعجابٍ لأعوض حرماني من العطف والحب.

كنّا نبقى في المدرسة لنأخذ حصّة بين الثانية والرابعة. في الوقت المستقطع بينها وبين الصفوف السابقة، كنت أبقي بصحبة رفاقي الصبيان في الصف، حيث نلعب ألعاباً مثل “أمر أو حقيقة”. في البداية انحصرت اللعبة بالاعتراف بأسرارٍ شخصيّة وأفعالٍ محدودة مثل التقبيل، أو بأوامر مثل “المس ثديها”. لم أشعر آنذاك بأنّ هناك مشكلة فيما أفعله، واعتبرت أنّني كنت أستكشف أشياء جديدة. لم أكن وحيدةً في ذلك، إذ كانت كلّ الفتيات يقمن بأفعالٍ مشابهة.

في إحدى المرات بقيت مع ثلاثةٍ من زملائي. كنّا نلعب اللعبة نفسها، وكنت جالسةً على الكرسي وقد أرخيت الحجاب. فجأة، لمحت واحداً منهم يحمل هاتفه وكأنّه يصوّر، عندما سألته عمّا يفعله أجاب بأنّه يتفقّد الرسائل. عندها اقترب زميلٌ آخر منّي، جلس على ركبتيّ وقبّلني على خدّي. دفعته مباشرةً بعيداً عنّي، لكن في تلك اللحظة، اقترب الفتى الثالث وجلس على ركبتيّ بدوره. كان يحتك بجسدي، فطلبت منه التوقّف ودفعته أيضاً.

كانت تلك مجرّد حركات مراهقين، لم أشعر بالإساءة وقتها، دفعتهم بعيداً وضحكنا معاً على الأمر.

بعد نحو نصف ساعة، قال لي الفتى الذي كان يحمل هاتفه: “سوف أربيهّما”، فسألته “لماذا تقول ذلك؟ ما الذي ستفعله؟”. أجابني: “إنهما يعاملانني كخادم لهما، ويرسلانني لأشتري لهما ما يريدانه من الدكّان في أوقات الفراغ. لقد صوّرتهما وسيعاقبان”، ثمّ عرض عليّ الفيديو الذي سجّله. صُدمت وبدأت بالصراخ عليه، “هذه أنا! كيف تجرؤ على فعل ذلك. امحِ الفيديو، أرجوك!”، لكن جوابه زاد صدمتي: “لقد نشرته بالفعل”. انفجر بعدها بالبكاء وهو يعتذر قائلاً أنّه لم يقصد إيذائي بل كان يرغب بمعاقبتهما، وأنّ وجهي ليس واضحاً في الفيديو. علمت في لحظتها أنّ معرفة أهلي بالأمر سيعني دمار حياتي، لكن لم يكن هناك أي شيء أستطيع فعله…

بعد وقتٍ قصير، صار الفيديو متداولاً بين الطلّاب، حتّى أن بعضهم دفع مالاً للحصول عليه. وصل الخبر إلى إدارة المدرسة التي حاولت التستّر على الأمر وإخفاء الحادثة، لكنّ ذلك كان مستحيلاً. انتقل الخبر إلى المدارس الأخرى وعلم أبناء الجالية فيه، ومن ضمنهم هدى التي لم تتوانَ عن إخبار أهلها.

عاقبتنا الإدارة، أنا وزملائي الذين ظهروا في الفيديو، بالاحتجاز في المكتبة أثناء الفرصة، من دون أن يطردوهم خشية “أن تكبر الفضيحة أكثر”. لكن الحادثة كانت قد صارت على ألسنة الجميع، باستثناء أهلي الذين لم يعرفوا بالأمر بعد. عشت في حالةٍ من الرعب والقلق بانتظار اللحظة التي سيصلهم فيها الخبر، وكنت أرتجف خوفاً في كلّ مرّة أتخيّل فيها كيف سينهال والدِي عليّ بالضرب. في تلك الفترة، قمنا بزيارةٍ عائلية إلى منزل هدى. سألتني والدتها عمّا حصل فأخبرتها، ووعدتني أنّها لن تبادر بإخبار زوجة أبي، لكنّها ستقول الحقيقة إنْ سألتها.

مرّ الوقت من دون أن يعرف أهلي بالأمر، حتّى أخي الذي يصغرني بعامين ويذهب معي إلى نفس المدرسة، لم يعرف. كان البعض يقترب منه ويقول: “أنت فتى صالح، أفضل من أختك. ألن تخبر عائلتك بالأمر؟”، لكنّه لم يفهم مقصدهم وحين كان يسألني، كنت أتهرب من الإجابة.

لم أرتح. كنت أعود إلى المنزل وأمضي إلى غرفتي مباشرةً دون تناول الغداء. سألني والدي مراراً إن كنت تعرّضت لمكروه لكنّني تجنّبت الكلام. كان من الضروري أن أخبره، لكنّني كنت خائفةً من ردّ فعله ومن الضرب الذي سأتعرّض له. تخيّلته يدفنّني حيّة، فصمتت.

كان أبناء الجالية يتناقلون الخبر، ويهاتف بعضهم أهلي في محاولةٍ لمعرفة إن كانوا قد علموا بالأمر. أخيراً، وصل الخبر إلى زوجة أبي أثناء زيارةٍ لإحدى صديقاتها. عندما جاء ليقلّها بدأت بالصراخ: “فضحتنا ابنتك! لقد صوّروها، أنظر لفعلتها”.

جُنّ أبي لما علمه. حين وصلا إلى المنزل، كنت أنا جالسةً مع أخي مرتديةً ثوب الصلاة. اقترب صوت خطوات أبي، وحاول أن يفتح الباب، لكنّه كان مقفلاً، فبدأ بالضرب عليه بقوّة. فهمت مباشرةً أنّه لا بدّ قد عرف وأحسست بأنّ حياتي قد انتهت.

11
لم أجرؤ على فتح الباب. كنت أقف مرعوبةً، فيما طرقات أبي عليه تزداد قوةً مع مرور الدقائق. حين استجمعت نفسي أخيراً وفتحت الباب، انهال والدي عليّ بالضرب، فيما زوجته تصرخ من خلفه: “ماذا فعلتِ يا شرموطة؟ لقد وضعتِ رأسنا في التراب!”. وضعت أختي الصغيرة على السرير وجاءت بحزام أبي وراحت تضربني به، فيما تدوس بقدميها على جسدي وترفسه. ثمّ صرخ والدي بها قائلاً: “أمسكي بها جيّدًا”، وبدأ بتوجيه اللكمات إلى وجهي.

صحت به: “أرجوك توّقف يا أبي. الأمر غير صحيح! لم يحدث شيء”، فأجابني: “كاذبة! ألستِ أنتِ الفتاة التي في الفيديو؟”، وقبل أن أجيب تابع صراخه قائلاً: “سأقصّ شعرك. سأذبحك”.

ركض إلى المطبخ بحثاً عن سكين، من دون أن يهتم بصوت جرس الباب يُقرع في تلك الأثناء. كانت صديقة زوجته التي أخبرتهما سرّي، مع ابنها الذي خلع الباب. كانت تشعر بالذنب وخافت من ردّة فعل أبي. دخلت مسرعةً وجرّبت أن تقف حاجزاً بيني وبينهما من دون جدوى. حمل أبي كرسيّاً ورماه نحوي، لكنّ المرأة اندفعت في محاولةٍ لردّه فأصاب كتفها. في تلك اللحظة سَكَنَ أبي واعتذر من المرأة التي رجته أن يتوقّف عن ضربي. ارتمى هو على الكرسي، فيما واصلت زوجته الصراخ عليّ: “لقد جلبت الفضيحة لنا والعار للجالية”. كنت أشعر بألمٍ شديد في كل أنحاء جسدي، فوضعت رأسي في حضن المرأة.

فجأةً، انتفض أبي من مكانه وشدّني من شعري قائلاً: “سنذهب إلى الطبيب. أريد أن أعلم إن كنتِ عذراءَ أم لا”.

حاولت ردعه وأخبرته أنّني لم أفعل ما يجلب العار، لكنّه لم يصدّقني. حاولت أن أفهمه أنّني لم أقم بأيّ علاقةٍ جنسية، لكنّه لم يأبه بكلامي، وراح صراخه يرتفع. قبل أن ننزل من السيارة قال لي: “إن كنتِ غير عذراء فمن الأفضل لكِ أن ترمي بنفسك الآن من على الشرفة”.

وصلت إلى المستشفى بثيابٍ ملطخةٍ بالدماء التي كانت تسيل من شفتيّ ووجهي المتورّم. دخلنا عيادة الطبيب فراح الناس يسألوننا إن كنت قد تعرّضت للاغتصاب، نفى أبي ذلك بحزم فلم يقل أحدٌ بعد ذلك شيئاً.

عندما جاء دورنا، أراد أبي الدخول معنا إلى الغرفة ليتأكّد من أنّي عذراء، لكن صديقة زوجته منعته. دخلت الامرأتان معي، وبعد الفحص قال لهما الطبيب أنّني بالفعل عذراء. عندما أبلغتا والدي بذلك قال لي: “احمدي الله أنّك عذراء، وإلّا كنت سأدفنك بيديّ هاتين”.

في طريق العودة التفت صوبي مرّة أخرى وقال: “سأقلّ الصديقة إلى منزلها ومن ثمّ سنعود إلى المنزل لأؤدّبكِ”. عندها تدخّلت صديقة خالتي ورفضت أن أعود إلى المنزل وأبلغت أبي أنّني سأذهب معها إلى منزلها، فأجابها: “خذيها. لا أريد رؤية وجهها”.

بقيت عند المرأة أسبوعاً قبل أن تجيء خالتي لزيارتي. بعد ذلك بوقت قصير، أبلغني أبي أنّه سيرجعني إلى المنزل لكن بشروطٍ جديدة: “ستكونين سيريلانكيّة. ستتركين المدرسة، ستقومين بتربية أختك الصغيرة، وعندما تكبر أختك ستعرف بما قمتِ به وستكرهك لأنّكِ جلبت العار لها. سأطرد الخدم وستبقين أنت خادمتنا. لن تناديني بأبي بعد الآن بل “مستر”، ولن تنادي خالتك بماما بل “مدام”. أنتِ الآن خادمة”.

في طريق العودة، توقف أمام “سوبر ماركت” وطلب منّي أن أنزل معه. كانت عيني ما تزال متورّمة وكذلك شفتي التي كانت مشقوقة، فرفضت النزول. ضربني وأجبرني على النزول قائلاً: “تشعرين بالخجل من وجهك لكنّك لا تخجلين بفعلتك”. في الداخل، مشيت خلفه وأنا أجرّ أختي الصغيرة في عربتها. كان الناس في تلك المرحلة قد بدأوا بتأليف أخبارٍ عنّي، مدّعين بأنّ هناك فيديوهات أخرى تدينني، وبأنّني أعمل في الدعارة. لذا، أراد والدي أن يُبرهن لأبناء الجالية بأنّه أدّبني، أراد لهم أن يروني مضروبة ومتورّمة. انتقل بي من سوبرماركت إلى أخرى ليتأكد من معرفة الجميع، وصادفنا زملاء من المدرسة وأفارقة وحتّى بعض الأجانب، وكان الجميع يتهامسون قائلين: “هذه هي اللبنانية التي صوّروها”.

راح بعضهم ينادي بعضاً، وفجأةً صار جسدي فرجةً لهم كدليلٍ على تأديب الأب الصالح لابنته المخطئة.

صحيحٌ أنّني كنتُ خجلةً من الفيديو، لكنّني لم أستوعب رغبة أبي المرضيّة بالتشهير بي أمام الناس، ولم أعرف كيف أطاعه قلبه لاحقاً على أخذي من منزلٍ إلى آخر في زياراتهم وزوجته ليعرض صنيعه أمام كل من يعرفهم من اللبنانيين. كان يجبرني على الذهاب معهم، ثم يطلب من أهل البيت الذي نزوره أن يُجلسوني مع الخدم أو أن يرموني في الخارج بجانب الكلاب. أما عندما كنّا نستقبل الناس في بيوتنا، فكان يجبرني على تقديم الضيافة ليروا هيئتي. فوق ذلك، هاتف جميع إخوته في أفريقيا ولبنان ليخبرهم بما جرى وليفضحني أمامهم.

كان أبي شخصاً سريع الغضب، لذا كان بعض الناس ينقلون إليه أخباراً مزيّفةً عنّي بغرض إيذاءه، ويقولون له أشياء من قبيل: “لقد قلنا لك أنّها أفريقية عاهرة، لكنّك لم تصدّقنا…”، أو “لقد حجّبتها وحاولتَ أن تجعلها محترمة، لكن العهر يجري في دماء هؤلاء الأفارقة”.

ارتدّ ذلك عليّ بشكل مرعب، إذ دفعته عبارات كهذه إلى المواظبة على ضربي يومياً وشتمي طوال الوقت. يقول: “كل تفكيركِ في الجنس، همّك بين فخذيك. تريدين أن تكوني شرموطة، عاهرة، تماماً كأمّك. أمّك كانت عاهرة”.

12
على الرغم من كلّ ما مررت به، إلّا أنّ حرماني من المدرسة كان أسوأ ما تعرّضت له على الإطلاق.

في ظهيرة أحد الأيّام نادتني خالتي وقالت لي: “سنحرق كل كتبك وكلّ ما يتعلّق بكِ. لن تعودي إلى المدرسة بعد أن قمتِ بفعلتك”.

أشعلتُ الموقد بنفسي، ثمّ أحضرتُ كتبي من الغرفة ووقفت أمام النّار على الشرفة ورميتُ كتبي فيها. راحت خالتي تنزع الصور المعلّقة على جدران غرفتي والميداليّات التي حصدتها وشهاداتي وصوري وترميها في النار. لا أملك اليومَ إلّا القليل من صور الطفولة والمراهقة، إذ حُرق معظمها آنذاك.

كان الجيران يتفرّجون علينا، فيما هي ترمي ما تبقّى من أغراضي في النار، ودموعي تنساب على وجنتيّ في نوبةٍ من البكاء المرير.

لزمت البيت، حيث عملت كخادمة. كان ممنوعاً عليّ أن أقضي أيّ لحظةٍ بمفردي. يوقظني والدي في الصباح الباكر قبل مغادرته إلى العمل، فأبدأ بالقيام بالأعمال المنزليّة والاعتناء بأختي الصغيرة. حتّى عند دخولي إلى الحمام كان ممنوعاً عليّ أن أقفل الباب، وإن أطلت في الداخل يطرق والدي الباب عليّ مستفسراً عن السبب.

في الوقت نفسه، كان وزوجته يخشيان منّي، إذ كان يرفض أن يأخذ الشاي أو القهوة من يدي خشية أن أكون قد سمّمت فنجانه، وكذلك خالتي التي كانت تخاف على أختي مني، فتأخذها منّي وتقفل عليها باب الغرفة، كلما أرادت الاستحمام.

لم أكن ألتقي بأحد من معارفي، باستثناء هدى التي جاءت مرّة لزيارتي، أو لإهانتي على الأرجح، بعد أن أشاعت عنّي بين الشبّان اللبنانيين أنّي لست عذراء، رغم معرفتها بالحقيقة.

عانيت في تلك الفترة من الاكتئاب من دون أن أعي ذلك. كنت أرتجف طوال الوقت وذهني مشتت ومشوّش.

في إحدى المرات، حين كنت أساعد خالتي في تحضير الطعام أوقعت صحناً من يدي، فراحت تصرخ عليّ. تردّت حالتها النفسية إثر الحادث فصارت تزور معالجاً نفسيّاً، أمّا أنا فلم يلقِ أحدٌ بالاً إلى ما كنتُ أمرّ به.

على الرغم من كلّ شيء، بقي أخي إلى جانبي. كانت صديقاتي من غير اللبنانيات متعاطفات معي، فكنّ يرسلن إليّ من خلاله رسائل الدعم التي أقرأها سرّاً في الحمام. لكن، وبعد فترة، رأى أبي إحدى صديقاتي تتكلّم مع أخي بعد الدوام فهدّده ومنعه من الحديث معهنّ. رضخ أخي لأوامره، لكنّه استمر بمساعدتي في الدروس. بسبب نظام مدرستنا التعليمي، كنّا نتشارك نفس الكتب في بعض المواد، لذا كان يتركها لي حتّى أتمكّن من متابعة الدروس. لم يعجب ذلك والدي بالطبع، فكان يقول كلّما رآني أدرس: “الآن استيقظ فيك حبّ الدراسة بعد أن كنتِ عاهرةً في المدرسة؟”.

واصل أبي ممارسته العنف عليّ، ووصل إلى ذروته خلال زيارة زوجته إلى لبنان، حيث بقيت مع شقيقي برفقته في سيراليون. في يومٍ من الأيّام انفجر غضبه عليّ لسببٍ لا أذكره، وراح يضربني أمام شقيقي.

فجأةً توقف عن ضربي. نظر إليّ وأمرني: “اخلعي ثيابك”. صدمتني كلماته. حدّقت في عينيه مستفهمة، لكنّه صرخ بي مجدّداً: “اخلعي ثيابك”، فخلعتها.

بقيت واقفةً في ثيابي الداخلية أحاول عبثاً أن أخفي جسدي بيديّ. عندها أتاني الأمر الثاني: “افتحي الباب، انزلي على الدرج، واخرجي من المنزل”.

تجمّدت في مكاني، فارتفع صوته بالصراخ والشتائم.

مشيت صوب باب البيت وفتحته، ثم نظرت إلى والدي مرّة أخيراً لكنّه بدا مصمّماً. سرت إلى الخارج ونزلت بضع درجات، عندها انفجر بالضحك وصرخ بي: “ارجعي، ارجعي. أهذا ما ترغبين به؟”. 

لم أفهم يومها ما الذي دفعه لفعل ذلك، وما زلت حتّى الآن غير قادرةٍ على تحديد ما إذا كان ذلك تحرّشاً أو اعتداءً.

على كلّ حال، دفعت ثمن ما جرى في المدرسة لسنواتٍ طويلةٍ لاحقة. رافقني ذلك كوصمةِ عارٍ لا مفرّ منها. ولم يتوقّف والدي عن إهانتي وشتمي وتعييري بدمي الأفريقي سوى قبل عامين فقط، وإن لم يتخلّ عن وصفي بـ”الدنكورة” من حينٍ إلى آخر.

10
لم يكن ما حدث في المدرسة في شهر آذار من العام 2009 حدثاً عابراً، بل لحظة انقلبت بعدها حياتي. قالوا إني ارتكبتُ خطئاً فادحاً وقتها، لكنّني الآن أفكّر أنّ ذلك كان من الممكن أن يحدث مع أيّ فتاةٍ أخرى من عمري. لكن، وكالعادة، رُبط الحادث بهويتي الثانية، واعتبر الناس أنّ ذلك متوقعٌ بسبب أمّي الأفريقية “وجيناتها”، وقال بعضهم أنّه من الجيد أنّ خطأي اقتصر على ذلك. كما لو أنّ اقترافي للخطأ محتّم بسبب جيناتي المختلطة.

صُوّر الأمر بطريقةٍ تظهر كلّ بنات الجالية اللبنانيات صالحات وأنا السيئة التي سوّدت وجه أبي.

كنت في الصف التاسع، ولم يكن قد مرّ وقت طويلٌ على ارتدائي الحجاب من دون رغبةٍ منّي في ذلك. كنت أحكمه في حضور أبي وأرخيه في المدرسة، وفي ذهني يدور صراعٌ داخلي بين ما أريد أن أكونه وما أنا عليه في الحقيقة: فتاةٌ مكسورة، يُلحق والدها وصف العاهرة باسمها في كل حين.

دفعتني مراهقتي الصعبة لمرافقة الشبّان في المدرسة. كانت أيّ عبارةٍ من قبيل “أنتِ جميلة” كافيةً لأقع في حب أيّ شاب. كنت بحاجةٍ لأنّ أشعر بأنّني محط اهتمامٍ وإعجابٍ لأعوض حرماني من العطف والحب.

كنّا نبقى في المدرسة لنأخذ حصّة بين الثانية والرابعة. في الوقت المستقطع بينها وبين الصفوف السابقة، كنت أبقي بصحبة رفاقي الصبيان في الصف، حيث نلعب ألعاباً مثل “أمر أو حقيقة”. في البداية انحصرت اللعبة بالاعتراف بأسرارٍ شخصيّة وأفعالٍ محدودة مثل التقبيل، أو بأوامر مثل “المس ثديها”. لم أشعر آنذاك بأنّ هناك مشكلة فيما أفعله، واعتبرت أنّني كنت أستكشف أشياء جديدة. لم أكن وحيدةً في ذلك، إذ كانت كلّ الفتيات يقمن بأفعالٍ مشابهة.

في إحدى المرات بقيت مع ثلاثةٍ من زملائي. كنّا نلعب اللعبة نفسها، وكنت جالسةً على الكرسي وقد أرخيت الحجاب. فجأة، لمحت واحداً منهم يحمل هاتفه وكأنّه يصوّر، عندما سألته عمّا يفعله أجاب بأنّه يتفقّد الرسائل. عندها اقترب زميلٌ آخر منّي، جلس على ركبتيّ وقبّلني على خدّي. دفعته مباشرةً بعيداً عنّي، لكن في تلك اللحظة، اقترب الفتى الثالث وجلس على ركبتيّ بدوره. كان يحتك بجسدي، فطلبت منه التوقّف ودفعته أيضاً.

كانت تلك مجرّد حركات مراهقين، لم أشعر بالإساءة وقتها، دفعتهم بعيداً وضحكنا معاً على الأمر.

بعد نحو نصف ساعة، قال لي الفتى الذي كان يحمل هاتفه: “سوف أربيهّما”، فسألته “لماذا تقول ذلك؟ ما الذي ستفعله؟”. أجابني: “إنهما يعاملانني كخادم لهما، ويرسلانني لأشتري لهما ما يريدانه من الدكّان في أوقات الفراغ. لقد صوّرتهما وسيعاقبان”، ثمّ عرض عليّ الفيديو الذي سجّله. صُدمت وبدأت بالصراخ عليه، “هذه أنا! كيف تجرؤ على فعل ذلك. امحِ الفيديو، أرجوك!”، لكن جوابه زاد صدمتي: “لقد نشرته بالفعل”. انفجر بعدها بالبكاء وهو يعتذر قائلاً أنّه لم يقصد إيذائي بل كان يرغب بمعاقبتهما، وأنّ وجهي ليس واضحاً في الفيديو. علمت في لحظتها أنّ معرفة أهلي بالأمر سيعني دمار حياتي، لكن لم يكن هناك أي شيء أستطيع فعله…

بعد وقتٍ قصير، صار الفيديو متداولاً بين الطلّاب، حتّى أن بعضهم دفع مالاً للحصول عليه. وصل الخبر إلى إدارة المدرسة التي حاولت التستّر على الأمر وإخفاء الحادثة، لكنّ ذلك كان مستحيلاً. انتقل الخبر إلى المدارس الأخرى وعلم أبناء الجالية فيه، ومن ضمنهم هدى التي لم تتوانَ عن إخبار أهلها.

عاقبتنا الإدارة، أنا وزملائي الذين ظهروا في الفيديو، بالاحتجاز في المكتبة أثناء الفرصة، من دون أن يطردوهم خشية “أن تكبر الفضيحة أكثر”. لكن الحادثة كانت قد صارت على ألسنة الجميع، باستثناء أهلي الذين لم يعرفوا بالأمر بعد. عشت في حالةٍ من الرعب والقلق بانتظار اللحظة التي سيصلهم فيها الخبر، وكنت أرتجف خوفاً في كلّ مرّة أتخيّل فيها كيف سينهال والدِي عليّ بالضرب. في تلك الفترة، قمنا بزيارةٍ عائلية إلى منزل هدى. سألتني والدتها عمّا حصل فأخبرتها، ووعدتني أنّها لن تبادر بإخبار زوجة أبي، لكنّها ستقول الحقيقة إنْ سألتها.

مرّ الوقت من دون أن يعرف أهلي بالأمر، حتّى أخي الذي يصغرني بعامين ويذهب معي إلى نفس المدرسة، لم يعرف. كان البعض يقترب منه ويقول: “أنت فتى صالح، أفضل من أختك. ألن تخبر عائلتك بالأمر؟”، لكنّه لم يفهم مقصدهم وحين كان يسألني، كنت أتهرب من الإجابة.

لم أرتح. كنت أعود إلى المنزل وأمضي إلى غرفتي مباشرةً دون تناول الغداء. سألني والدي مراراً إن كنت تعرّضت لمكروه لكنّني تجنّبت الكلام. كان من الضروري أن أخبره، لكنّني كنت خائفةً من ردّ فعله ومن الضرب الذي سأتعرّض له. تخيّلته يدفنّني حيّة، فصمتت.

كان أبناء الجالية يتناقلون الخبر، ويهاتف بعضهم أهلي في محاولةٍ لمعرفة إن كانوا قد علموا بالأمر. أخيراً، وصل الخبر إلى زوجة أبي أثناء زيارةٍ لإحدى صديقاتها. عندما جاء ليقلّها بدأت بالصراخ: “فضحتنا ابنتك! لقد صوّروها، أنظر لفعلتها”.

جُنّ أبي لما علمه. حين وصلا إلى المنزل، كنت أنا جالسةً مع أخي مرتديةً ثوب الصلاة. اقترب صوت خطوات أبي، وحاول أن يفتح الباب، لكنّه كان مقفلاً، فبدأ بالضرب عليه بقوّة. فهمت مباشرةً أنّه لا بدّ قد عرف وأحسست بأنّ حياتي قد انتهت.

11
لم أجرؤ على فتح الباب. كنت أقف مرعوبةً، فيما طرقات أبي عليه تزداد قوةً مع مرور الدقائق. حين استجمعت نفسي أخيراً وفتحت الباب، انهال والدي عليّ بالضرب، فيما زوجته تصرخ من خلفه: “ماذا فعلتِ يا شرموطة؟ لقد وضعتِ رأسنا في التراب!”. وضعت أختي الصغيرة على السرير وجاءت بحزام أبي وراحت تضربني به، فيما تدوس بقدميها على جسدي وترفسه. ثمّ صرخ والدي بها قائلاً: “أمسكي بها جيّدًا”، وبدأ بتوجيه اللكمات إلى وجهي.

صحت به: “أرجوك توّقف يا أبي. الأمر غير صحيح! لم يحدث شيء”، فأجابني: “كاذبة! ألستِ أنتِ الفتاة التي في الفيديو؟”، وقبل أن أجيب تابع صراخه قائلاً: “سأقصّ شعرك. سأذبحك”.

ركض إلى المطبخ بحثاً عن سكين، من دون أن يهتم بصوت جرس الباب يُقرع في تلك الأثناء. كانت صديقة زوجته التي أخبرتهما سرّي، مع ابنها الذي خلع الباب. كانت تشعر بالذنب وخافت من ردّة فعل أبي. دخلت مسرعةً وجرّبت أن تقف حاجزاً بيني وبينهما من دون جدوى. حمل أبي كرسيّاً ورماه نحوي، لكنّ المرأة اندفعت في محاولةٍ لردّه فأصاب كتفها. في تلك اللحظة سَكَنَ أبي واعتذر من المرأة التي رجته أن يتوقّف عن ضربي. ارتمى هو على الكرسي، فيما واصلت زوجته الصراخ عليّ: “لقد جلبت الفضيحة لنا والعار للجالية”. كنت أشعر بألمٍ شديد في كل أنحاء جسدي، فوضعت رأسي في حضن المرأة.

فجأةً، انتفض أبي من مكانه وشدّني من شعري قائلاً: “سنذهب إلى الطبيب. أريد أن أعلم إن كنتِ عذراءَ أم لا”.

حاولت ردعه وأخبرته أنّني لم أفعل ما يجلب العار، لكنّه لم يصدّقني. حاولت أن أفهمه أنّني لم أقم بأيّ علاقةٍ جنسية، لكنّه لم يأبه بكلامي، وراح صراخه يرتفع. قبل أن ننزل من السيارة قال لي: “إن كنتِ غير عذراء فمن الأفضل لكِ أن ترمي بنفسك الآن من على الشرفة”.

وصلت إلى المستشفى بثيابٍ ملطخةٍ بالدماء التي كانت تسيل من شفتيّ ووجهي المتورّم. دخلنا عيادة الطبيب فراح الناس يسألوننا إن كنت قد تعرّضت للاغتصاب، نفى أبي ذلك بحزم فلم يقل أحدٌ بعد ذلك شيئاً.

عندما جاء دورنا، أراد أبي الدخول معنا إلى الغرفة ليتأكّد من أنّي عذراء، لكن صديقة زوجته منعته. دخلت الامرأتان معي، وبعد الفحص قال لهما الطبيب أنّني بالفعل عذراء. عندما أبلغتا والدي بذلك قال لي: “احمدي الله أنّك عذراء، وإلّا كنت سأدفنك بيديّ هاتين”.

في طريق العودة التفت صوبي مرّة أخرى وقال: “سأقلّ الصديقة إلى منزلها ومن ثمّ سنعود إلى المنزل لأؤدّبكِ”. عندها تدخّلت صديقة خالتي ورفضت أن أعود إلى المنزل وأبلغت أبي أنّني سأذهب معها إلى منزلها، فأجابها: “خذيها. لا أريد رؤية وجهها”.

بقيت عند المرأة أسبوعاً قبل أن تجيء خالتي لزيارتي. بعد ذلك بوقت قصير، أبلغني أبي أنّه سيرجعني إلى المنزل لكن بشروطٍ جديدة: “ستكونين سيريلانكيّة. ستتركين المدرسة، ستقومين بتربية أختك الصغيرة، وعندما تكبر أختك ستعرف بما قمتِ به وستكرهك لأنّكِ جلبت العار لها. سأطرد الخدم وستبقين أنت خادمتنا. لن تناديني بأبي بعد الآن بل “مستر”، ولن تنادي خالتك بماما بل “مدام”. أنتِ الآن خادمة”.

في طريق العودة، توقف أمام “سوبر ماركت” وطلب منّي أن أنزل معه. كانت عيني ما تزال متورّمة وكذلك شفتي التي كانت مشقوقة، فرفضت النزول. ضربني وأجبرني على النزول قائلاً: “تشعرين بالخجل من وجهك لكنّك لا تخجلين بفعلتك”. في الداخل، مشيت خلفه وأنا أجرّ أختي الصغيرة في عربتها. كان الناس في تلك المرحلة قد بدأوا بتأليف أخبارٍ عنّي، مدّعين بأنّ هناك فيديوهات أخرى تدينني، وبأنّني أعمل في الدعارة. لذا، أراد والدي أن يُبرهن لأبناء الجالية بأنّه أدّبني، أراد لهم أن يروني مضروبة ومتورّمة. انتقل بي من سوبرماركت إلى أخرى ليتأكد من معرفة الجميع، وصادفنا زملاء من المدرسة وأفارقة وحتّى بعض الأجانب، وكان الجميع يتهامسون قائلين: “هذه هي اللبنانية التي صوّروها”.

راح بعضهم ينادي بعضاً، وفجأةً صار جسدي فرجةً لهم كدليلٍ على تأديب الأب الصالح لابنته المخطئة.

صحيحٌ أنّني كنتُ خجلةً من الفيديو، لكنّني لم أستوعب رغبة أبي المرضيّة بالتشهير بي أمام الناس، ولم أعرف كيف أطاعه قلبه لاحقاً على أخذي من منزلٍ إلى آخر في زياراتهم وزوجته ليعرض صنيعه أمام كل من يعرفهم من اللبنانيين. كان يجبرني على الذهاب معهم، ثم يطلب من أهل البيت الذي نزوره أن يُجلسوني مع الخدم أو أن يرموني في الخارج بجانب الكلاب. أما عندما كنّا نستقبل الناس في بيوتنا، فكان يجبرني على تقديم الضيافة ليروا هيئتي. فوق ذلك، هاتف جميع إخوته في أفريقيا ولبنان ليخبرهم بما جرى وليفضحني أمامهم.

كان أبي شخصاً سريع الغضب، لذا كان بعض الناس ينقلون إليه أخباراً مزيّفةً عنّي بغرض إيذاءه، ويقولون له أشياء من قبيل: “لقد قلنا لك أنّها أفريقية عاهرة، لكنّك لم تصدّقنا…”، أو “لقد حجّبتها وحاولتَ أن تجعلها محترمة، لكن العهر يجري في دماء هؤلاء الأفارقة”.

ارتدّ ذلك عليّ بشكل مرعب، إذ دفعته عبارات كهذه إلى المواظبة على ضربي يومياً وشتمي طوال الوقت. يقول: “كل تفكيركِ في الجنس، همّك بين فخذيك. تريدين أن تكوني شرموطة، عاهرة، تماماً كأمّك. أمّك كانت عاهرة”.

12
على الرغم من كلّ ما مررت به، إلّا أنّ حرماني من المدرسة كان أسوأ ما تعرّضت له على الإطلاق.

في ظهيرة أحد الأيّام نادتني خالتي وقالت لي: “سنحرق كل كتبك وكلّ ما يتعلّق بكِ. لن تعودي إلى المدرسة بعد أن قمتِ بفعلتك”.

أشعلتُ الموقد بنفسي، ثمّ أحضرتُ كتبي من الغرفة ووقفت أمام النّار على الشرفة ورميتُ كتبي فيها. راحت خالتي تنزع الصور المعلّقة على جدران غرفتي والميداليّات التي حصدتها وشهاداتي وصوري وترميها في النار. لا أملك اليومَ إلّا القليل من صور الطفولة والمراهقة، إذ حُرق معظمها آنذاك.

كان الجيران يتفرّجون علينا، فيما هي ترمي ما تبقّى من أغراضي في النار، ودموعي تنساب على وجنتيّ في نوبةٍ من البكاء المرير.

لزمت البيت، حيث عملت كخادمة. كان ممنوعاً عليّ أن أقضي أيّ لحظةٍ بمفردي. يوقظني والدي في الصباح الباكر قبل مغادرته إلى العمل، فأبدأ بالقيام بالأعمال المنزليّة والاعتناء بأختي الصغيرة. حتّى عند دخولي إلى الحمام كان ممنوعاً عليّ أن أقفل الباب، وإن أطلت في الداخل يطرق والدي الباب عليّ مستفسراً عن السبب.

في الوقت نفسه، كان وزوجته يخشيان منّي، إذ كان يرفض أن يأخذ الشاي أو القهوة من يدي خشية أن أكون قد سمّمت فنجانه، وكذلك خالتي التي كانت تخاف على أختي مني، فتأخذها منّي وتقفل عليها باب الغرفة، كلما أرادت الاستحمام.

لم أكن ألتقي بأحد من معارفي، باستثناء هدى التي جاءت مرّة لزيارتي، أو لإهانتي على الأرجح، بعد أن أشاعت عنّي بين الشبّان اللبنانيين أنّي لست عذراء، رغم معرفتها بالحقيقة.

عانيت في تلك الفترة من الاكتئاب من دون أن أعي ذلك. كنت أرتجف طوال الوقت وذهني مشتت ومشوّش.

في إحدى المرات، حين كنت أساعد خالتي في تحضير الطعام أوقعت صحناً من يدي، فراحت تصرخ عليّ. تردّت حالتها النفسية إثر الحادث فصارت تزور معالجاً نفسيّاً، أمّا أنا فلم يلقِ أحدٌ بالاً إلى ما كنتُ أمرّ به.

على الرغم من كلّ شيء، بقي أخي إلى جانبي. كانت صديقاتي من غير اللبنانيات متعاطفات معي، فكنّ يرسلن إليّ من خلاله رسائل الدعم التي أقرأها سرّاً في الحمام. لكن، وبعد فترة، رأى أبي إحدى صديقاتي تتكلّم مع أخي بعد الدوام فهدّده ومنعه من الحديث معهنّ. رضخ أخي لأوامره، لكنّه استمر بمساعدتي في الدروس. بسبب نظام مدرستنا التعليمي، كنّا نتشارك نفس الكتب في بعض المواد، لذا كان يتركها لي حتّى أتمكّن من متابعة الدروس. لم يعجب ذلك والدي بالطبع، فكان يقول كلّما رآني أدرس: “الآن استيقظ فيك حبّ الدراسة بعد أن كنتِ عاهرةً في المدرسة؟”.

واصل أبي ممارسته العنف عليّ، ووصل إلى ذروته خلال زيارة زوجته إلى لبنان، حيث بقيت مع شقيقي برفقته في سيراليون. في يومٍ من الأيّام انفجر غضبه عليّ لسببٍ لا أذكره، وراح يضربني أمام شقيقي.

فجأةً توقف عن ضربي. نظر إليّ وأمرني: “اخلعي ثيابك”. صدمتني كلماته. حدّقت في عينيه مستفهمة، لكنّه صرخ بي مجدّداً: “اخلعي ثيابك”، فخلعتها.

بقيت واقفةً في ثيابي الداخلية أحاول عبثاً أن أخفي جسدي بيديّ. عندها أتاني الأمر الثاني: “افتحي الباب، انزلي على الدرج، واخرجي من المنزل”.

تجمّدت في مكاني، فارتفع صوته بالصراخ والشتائم.

مشيت صوب باب البيت وفتحته، ثم نظرت إلى والدي مرّة أخيراً لكنّه بدا مصمّماً. سرت إلى الخارج ونزلت بضع درجات، عندها انفجر بالضحك وصرخ بي: “ارجعي، ارجعي. أهذا ما ترغبين به؟”. 

لم أفهم يومها ما الذي دفعه لفعل ذلك، وما زلت حتّى الآن غير قادرةٍ على تحديد ما إذا كان ذلك تحرّشاً أو اعتداءً.

على كلّ حال، دفعت ثمن ما جرى في المدرسة لسنواتٍ طويلةٍ لاحقة. رافقني ذلك كوصمةِ عارٍ لا مفرّ منها. ولم يتوقّف والدي عن إهانتي وشتمي وتعييري بدمي الأفريقي سوى قبل عامين فقط، وإن لم يتخلّ عن وصفي بـ”الدنكورة” من حينٍ إلى آخر.

غضب أبي، فراح يكسر أواني المطبخ، وهو يصرخ في وجهي: "لطالما كنتِ سبب الفضيحة والعار لي. إنّهم لا يرغبون بكِ زوجةً لابنهم، لكنّكِ أصرّيت. كلّ ما ترغبين به هو الجنس. لستِ قادرة على ضبط نفسك".

13
بعد أن علم هادي بحادثة المدرسة قطع تواصلهُ معي لبعض الوقت، لكنّه سرعان ما عاد وتفهّم الأمر. أخبرني أن ما حدث معي قد يحدث مع مراهقةٍ تعيش في عائلةٍ طبيعية، فكيف في حالة فتاةٍ من عائلة كعائلتي.

استمّرت علاقتنا واستمّر رفض العائلة له، ومع الوقت ازدادت الضغوطات علينا بهدف تفريقنا. ولكنّ عائلة هادي أضافت على قائمة العنصرية تجاه الفتيات المختلَطات عناصرَ جديدة، أهمّها “السحر”.

لم أرُق لوالدة هادي يوماً، لقد كرهتني وعاملتني بفوقيّةٍ وعنصرية. عندما اتّخذ هادي قراره بالسفر إلى ألمانيا كنتُ أوّلَ من دعمه، فساعدته في تحضير الأوراق والمستندات المطلوبة للسفر، لكنّ ذلك لم يعنِ لوالدته سوى أنّني أستعمل ابنها كجسرٍ عبورٍ إلى أوروبا.

لم يكن الحب بين امرأةٍ سوداء ورجل أبيض أمراً مفهوماً بالنسبة لها إلّا كنتيجةٍ للسحر.

في إحدى المرّات، أهديتُ هادي سواراً كُتبت عليه آياتٌ قرآنية، وعندما رأته والدته استشاظت غضباً وطلبت منه خلعه، معتبرةً أنّ حبّه لي ما هو إلا “سحرٌ أسود” أمارسه على ابنها كي يقع في حبّي ويصير “خاتماً في إصبعي”.

تحوّلت علاقتنا إلى ما يشبه ساحة حرب أتلقى فيها الهجمات العنصرية من جميع الجهات. كنتُ فتاةً سوداء واحدة في مواجهة عائلة بيضاء بكاملها. زادت من متاعبي ميرفا، حبيبةُ شقيق هادي، إذ كرهتني من دون سببٍ منذ البداية. كما كرهني شقيقه أيضاً.

في لقائنا الرباعي الأوّل كنت شديدة الحماس للتعرّف إليها، خاصةً بعد أن شاهدتُ صورها سابقاً. لكنّني صُدمت عند رؤيتها، فهي لم تكن تشبه نفسها أبداً من كثرة التعديلات التي تجريها على الصور. جلستُ صامتةً طوال اللقاء. لاحقاً، أضفت رقمها على واتساب لأكتشف أنّها تنشر صوراً لأطفالٍ بيض البشرة بعيون زرقاء وشعرٍ أشقر مرفقةً بعبارة “ابني”، وتضعها مقابل صور لأطفال سود البشرة تم التلاعب بوجوههم لإظهارهم بشعين، مع عبارة “ابنة سلفتي”.

أغضبني ذلك بشدّة لكنّني لم أقل شيئاً، بل تعمّدت تجاهلها قدر الإمكان. بالنسبة لوالدة هادي، كنّا أنا وميرفا، طرفا نقيض. فهي الفتاة اللبنانية الجميلة والمؤدّبة، صاحبة الأخلاق الحسنة والسمعة الطيّبة، وأنا الفتاة البشعة سيئة الصيت والسمعة.

في تلك الفترة فهمت تماماً أنّه يمكن أن يكون للإنسان عائلة من دون أن يمنع ذلك عنه الإحساس باليتم. كان لديّ أبٌ وعائلة، لكنّني لم أستطع إخبارهم بأيٍّ من مشاكلي. حتّى في المرات القليلة التي كنتُ أجرؤ فيها على الكلام كنت أتلقّى اللوم على الفور لكوني “شيطانة من صغري” بسبب “لوني الأسود ودمي الأفريقي”.

14
مرّ الوقت واستمرّت العلاقة رغم كلّ شيء. تخرّجت من الجامعة ونجح هادي في السفر إلى ألمانيا، حيث بدأ مساعدتي على اللحاق به. كان والدي غاضباً من أنّ العلاقة كانت ما تزال غير رسميّة، لذلك بدا عليه الارتياح حين اتّصل به والد هادي ليتفقوا على الخطبة وموعدها.

بدأتُ التحضير للحفل وسرعان ما صدمت بأنّ خالتي، زوجة أبي، لم تهتم بمساعدتي، حتّى أنّها لم ترافقني لشراء الفستان. لم تكن راضيةً عن العلاقة واعتبرت أنّني ما زلت صغيرةً على الارتباط، فاختارت عدم التدخل في أيٍّ من تفاصيل الخطوبة كي لا تُلام على شيءٍ في حال فشل العلاقة لاحقاً، خاصةً أنّها قريبةٌ لهادي. مع ذلك، لم أستطع أن أطرد السؤال من رأسي: هل كانت لتفعل ذلك معي لو أنّني ابنتها؟

في تلك المرحلة، عدت للتفكير بأمّي… أمّي البيولوجية، وتمنّيت لو أنّها كانت معي، إلى جانبي.

جاءت ليلة خطوبتي. قدِم هادي من ألمانيا ووصل مع أهله إلى بيت أمّ خالتي، لكنّ الخطبة لم تتم. بدل أن يطلبني من أبي، اقترح والد هادي عليه أن ننتظر حتى أحصل على الفيزا إلى ألمانيا، ورفض بشكل مطلق أن يتمّ كتب الكتاب. صُدمنا، هادي وأنا وأبي. استنكر هادي كلام والده وتنصُّله ممّا اتُّفق عليه سابقاً. وإذ لم يشأ والدي أن يكسر بخاطري أمامهم، قدّم اقتراحاً آخر: “إن كنتم لا ترغبون بابنتي، لكنهما يحبّان بعضهما البعض، فليتّم عقد القران عند الشيخ”. مع ذلك بقي أبو هادي مصرّاً على موقفه.

بعد مغادرتهم انفجر غضب أبي، فراح يكسر أواني المطبخ، وهو يصرخ في وجهي: “لطالما كنتِ سبب الفضيحة والعار لي. إنّهم لا يرغبون بكِ زوجةً لابنهم، لكنّكِ أصرّيت. تريدينه أن يضاجعك، كلّ ما ترغبين به هو الجنس. لستِ قادرة على ضبط نفسك”.

في الليلة نفسها طردني أبي من المنزل فعدت إلى بيت عمتي التي احتضنتني حين أخبرتها بما حصل.

لم تجفّ دموعي طوال تلك الليلة.

بالنسبة لأهل هادي كنتُ أنا العقل المدبّر لهذه العلاقة والخطوبة، والأمر نفسه بالنسبة لعائلتي. حتّى أبي صدّق أنّني أنا من كنت أضغط على هادي ليخطبني. رأى الجميع أنّني كنت أستغلّه لكي أسافر إلى ألمانيا، وكان ذلك سبباً في ازدياد غضبي. بطبيعة الحال، رغبت بالهروب من البلد، وبأن أتحرّر من السلطة التي يمارسها الجميع عليّ، لكنّني أحببت هادي، الذي أراد بدوره الهروب من أهله.

بعد ما حصل، طلبت عائلتي من هادي أن يبتعد عني ويتركني، وبالفعل عاد مسافراً إلى ألمانيا. اعتقدت العائلتان أنّنا انفصلنا لكنّنا بقينا على تواصلٍ لبعض الوقت قبل أن يختفي هادي فجأةً من دون إنذار.

15
ترك انقطاع هادي عنّي في نفسي شعوراً بالحزن والغضب، خاصةً أنّ أهله حمّلوني ذنب مقاطعته لهم أيضاً. في تلك الفترة، طلب والدي منّي أن أعود إلى سيراليون لكنّني رفضت ورحت أبحث عن فرصة عملٍ من دون أن أخبره. بالفعل وجدت وظيفة محاسبة وموظّفة استقبال في أحد المختبرات. اتصلتُ به وأخبرته بأنّني سأبدأ بالعمل، فغضب منّي لكنّه عاد ووافق على مضض.

أقف على الباب ببزّتي الكحليّة، أحاول أن أؤدي قدر المستطاع الدور المطلوب منّي كموظفّة استقبال. أتحدّث اللغة الانكليزيّة بطلاقةٍ مع عناصر من قوّات حفظ السلام، توحي لغة جسدي بامتلاكي شخصيّةً قويّة، وتكشف ابتسامتي أنّي فرحة بعملي. فجأةً يطلّ عمّي من الباب، فتتبخّر ثقتي، أرتبك وأهرول إلى الحمام لأختبئ، لم أكن أريد لعمي أن يراني في العمل، أؤدّي هذه الوظيفة. بالنسبة له ولبقية العائلة كان هذا عملاً تافهاً لا يليق بفتاةٍ تخرّجت من الجامعة. وحده أخي من دعمني آنذاك، قال لي أنّه فخورٌ بي لأنّها أوّل مرّةٍ أتحدّى فيها أبي لأفعل ما أريد.

تبعتني العنصرية من البيت إلى الجامعة ومن ثمّ الوظيفة. اعتادت زميلاتي والزبائن أن ينادوني بـ”السريلانكية”. لم يعاملني أحدٌ بلطف سوى العاملات الأثيوبيات. عندما عرفت الموظّفة المسؤولة عن تدريبي بأنّ أمّي أفريقية ومنفصلة عن أبي قالت: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”.

من بين الجميع في المكتب اختارت أن تتسلّط عليّ، وعاملتني كخادمةٍ لها، فتارةً تطلب منّي أن أحضّر لها النسكافيه وتارةً تأمرني أن آتي لها بمنقوشة، وهي إلى ذلك أجبرتني على طلب الإذن منها للحصول على الاستراحة وعلى إخبارها بكل تحرّكاتي داخل المكتب.

لم تكن تطلب هذه الأمور من أيّ أحدٍ من المتدربات الجديدات، سوايَ أنا.

مع الوقت أدركت أنّها تخشى أن أزاحمها على منصبها، فأنا بارعةٌ في التحدّث مع الزبائن، وتقبلت عملي كموظفة استقبال. بذلت قصارى جهدي للنجاح في هذه الوظيفة، وشجّعني على ذلك ارتياد عناصر قوّات حفظ السلام المتعدّدة الجنسيات إلى المختبر، فكنت أفرح حين أحادثهم بطلاقةٍ بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية. مع الوقت، صارت إدارة المختبر تراني الوجهَ المشرق للمكتب بحرفيتي وابتسامتي الدائمة.

لكن، وبعد سنة من العمل، بدأت أسأل نفسي عمّا أقوم به، وعمّا إذا كان ذلك هو طموحي الفعلي في حياتي. بدأت أفكّر بالسفر من جديد، وأحسست بالحاجة للهروب من هذا المكان الذي يقتلني.

16
تعرّفت خلال عملي إلى شبّان مختلفين، لكنّهم جميعاً تشاركوا نفس النظرة إليّ، ورأوني كأداةٍ جنسية.. كانوا يعرضون عليّ أن نقيم عقد متعة، أي علاقةً عابرة لكن ضمن الأطر التي يقبلها الشرع الدينيّ والمجتمع.

هذا ما حصل مع زميلي من أيام الجامعة أحمد، الشاب ذو الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. كانت فكرة أن يُعجب بي رجلٌ بتلك الصفات أمراً يدعو للفخر والدهشة بالنسبة لي، وذلك بسبب نظرتي الدونية لنفسي. لكنّني سرعان ما اكتشفت أنّه كان كغيره، لا يرى فيّ سوى صورةً نمطيّةً لامرأة ملوّنة لا بد أنها صالحة للجنس وماهرةٌ في الفراش.

طلب منّي أحمد أن نقوم بعقد متعة فاستنكرت ذلك، لكنّه ردّ بكل وقاحة: “لا تتصرّفي وكأنّك عفيفة”، وأضاف: “أخبريني الحقيقة. كم شاباً طلب منكِ ذلك قبلي؟”. لم يلتفت إلى أيّ شيء فيَّ سوى جسدي، ولم يهمّه إن كنتُ مثقفة أو جميلةً أو متعلّمة، و فهمت أنه لم يفكّر بي ولا لحظةٍ واحدةٍ كزوجةٍ أو كحبيبة.

كنت أرى صديقاتي يعشن قصص حبّ فيما كنت أنا وحيدةً، أبحث دون حظٍّ عمّن يحبّني لذاتي، ويعوّضني عن العاطفة التي لم أنلها يوماً.

13
بعد أن علم هادي بحادثة المدرسة قطع تواصلهُ معي لبعض الوقت، لكنّه سرعان ما عاد وتفهّم الأمر. أخبرني أن ما حدث معي قد يحدث مع مراهقةٍ تعيش في عائلةٍ طبيعية، فكيف في حالة فتاةٍ من عائلة كعائلتي.

استمّرت علاقتنا واستمّر رفض العائلة له، ومع الوقت ازدادت الضغوطات علينا بهدف تفريقنا. ولكنّ عائلة هادي أضافت على قائمة العنصرية تجاه الفتيات المختلَطات عناصرَ جديدة، أهمّها “السحر”.

لم أرُق لوالدة هادي يوماً، لقد كرهتني وعاملتني بفوقيّةٍ وعنصرية. عندما اتّخذ هادي قراره بالسفر إلى ألمانيا كنتُ أوّلَ من دعمه، فساعدته في تحضير الأوراق والمستندات المطلوبة للسفر، لكنّ ذلك لم يعنِ لوالدته سوى أنّني أستعمل ابنها كجسرٍ عبورٍ إلى أوروبا.

لم يكن الحب بين امرأةٍ سوداء ورجل أبيض أمراً مفهوماً بالنسبة لها إلّا كنتيجةٍ للسحر.

في إحدى المرّات، أهديتُ هادي سواراً كُتبت عليه آياتٌ قرآنية، وعندما رأته والدته استشاظت غضباً وطلبت منه خلعه، معتبرةً أنّ حبّه لي ما هو إلا “سحرٌ أسود” أمارسه على ابنها كي يقع في حبّي ويصير “خاتماً في إصبعي”.

تحوّلت علاقتنا إلى ما يشبه ساحة حرب أتلقى فيها الهجمات العنصرية من جميع الجهات. كنتُ فتاةً سوداء واحدة في مواجهة عائلة بيضاء بكاملها. زادت من متاعبي ميرفا، حبيبةُ شقيق هادي، إذ كرهتني من دون سببٍ منذ البداية. كما كرهني شقيقه أيضاً.

في لقائنا الرباعي الأوّل كنت شديدة الحماس للتعرّف إليها، خاصةً بعد أن شاهدتُ صورها سابقاً. لكنّني صُدمت عند رؤيتها، فهي لم تكن تشبه نفسها أبداً من كثرة التعديلات التي تجريها على الصور. جلستُ صامتةً طوال اللقاء. لاحقاً، أضفت رقمها على واتساب لأكتشف أنّها تنشر صوراً لأطفالٍ بيض البشرة بعيون زرقاء وشعرٍ أشقر مرفقةً بعبارة “ابني”، وتضعها مقابل صور لأطفال سود البشرة تم التلاعب بوجوههم لإظهارهم بشعين، مع عبارة “ابنة سلفتي”.

أغضبني ذلك بشدّة لكنّني لم أقل شيئاً، بل تعمّدت تجاهلها قدر الإمكان. بالنسبة لوالدة هادي، كنّا أنا وميرفا، طرفا نقيض. فهي الفتاة اللبنانية الجميلة والمؤدّبة، صاحبة الأخلاق الحسنة والسمعة الطيّبة، وأنا الفتاة البشعة سيئة الصيت والسمعة.

في تلك الفترة فهمت تماماً أنّه يمكن أن يكون للإنسان عائلة من دون أن يمنع ذلك عنه الإحساس باليتم. كان لديّ أبٌ وعائلة، لكنّني لم أستطع إخبارهم بأيٍّ من مشاكلي. حتّى في المرات القليلة التي كنتُ أجرؤ فيها على الكلام كنت أتلقّى اللوم على الفور لكوني “شيطانة من صغري” بسبب “لوني الأسود ودمي الأفريقي”.

14
مرّ الوقت واستمرّت العلاقة رغم كلّ شيء. تخرّجت من الجامعة ونجح هادي في السفر إلى ألمانيا، حيث بدأ مساعدتي على اللحاق به. كان والدي غاضباً من أنّ العلاقة كانت ما تزال غير رسميّة، لذلك بدا عليه الارتياح حين اتّصل به والد هادي ليتفقوا على الخطبة وموعدها.

بدأتُ التحضير للحفل وسرعان ما صدمت بأنّ خالتي، زوجة أبي، لم تهتم بمساعدتي، حتّى أنّها لم ترافقني لشراء الفستان. لم تكن راضيةً عن العلاقة واعتبرت أنّني ما زلت صغيرةً على الارتباط، فاختارت عدم التدخل في أيٍّ من تفاصيل الخطوبة كي لا تُلام على شيءٍ في حال فشل العلاقة لاحقاً، خاصةً أنّها قريبةٌ لهادي. مع ذلك، لم أستطع أن أطرد السؤال من رأسي: هل كانت لتفعل ذلك معي لو أنّني ابنتها؟

في تلك المرحلة، عدت للتفكير بأمّي… أمّي البيولوجية، وتمنّيت لو أنّها كانت معي، إلى جانبي.

جاءت ليلة خطوبتي. قدِم هادي من ألمانيا ووصل مع أهله إلى بيت أمّ خالتي، لكنّ الخطبة لم تتم. بدل أن يطلبني من أبي، اقترح والد هادي عليه أن ننتظر حتى أحصل على الفيزا إلى ألمانيا، ورفض بشكل مطلق أن يتمّ كتب الكتاب. صُدمنا، هادي وأنا وأبي. استنكر هادي كلام والده وتنصُّله ممّا اتُّفق عليه سابقاً. وإذ لم يشأ والدي أن يكسر بخاطري أمامهم، قدّم اقتراحاً آخر: “إن كنتم لا ترغبون بابنتي، لكنهما يحبّان بعضهما البعض، فليتّم عقد القران عند الشيخ”. مع ذلك بقي أبو هادي مصرّاً على موقفه.

بعد مغادرتهم انفجر غضب أبي، فراح يكسر أواني المطبخ، وهو يصرخ في وجهي: “لطالما كنتِ سبب الفضيحة والعار لي. إنّهم لا يرغبون بكِ زوجةً لابنهم، لكنّكِ أصرّيت. تريدينه أن يضاجعك، كلّ ما ترغبين به هو الجنس. لستِ قادرة على ضبط نفسك”.

في الليلة نفسها طردني أبي من المنزل فعدت إلى بيت عمتي التي احتضنتني حين أخبرتها بما حصل.

لم تجفّ دموعي طوال تلك الليلة.

بالنسبة لأهل هادي كنتُ أنا العقل المدبّر لهذه العلاقة والخطوبة، والأمر نفسه بالنسبة لعائلتي. حتّى أبي صدّق أنّني أنا من كنت أضغط على هادي ليخطبني. رأى الجميع أنّني كنت أستغلّه لكي أسافر إلى ألمانيا، وكان ذلك سبباً في ازدياد غضبي. بطبيعة الحال، رغبت بالهروب من البلد، وبأن أتحرّر من السلطة التي يمارسها الجميع عليّ، لكنّني أحببت هادي، الذي أراد بدوره الهروب من أهله.

بعد ما حصل، طلبت عائلتي من هادي أن يبتعد عني ويتركني، وبالفعل عاد مسافراً إلى ألمانيا. اعتقدت العائلتان أنّنا انفصلنا لكنّنا بقينا على تواصلٍ لبعض الوقت قبل أن يختفي هادي فجأةً من دون إنذار.

15
ترك انقطاع هادي عنّي في نفسي شعوراً بالحزن والغضب، خاصةً أنّ أهله حمّلوني ذنب مقاطعته لهم أيضاً. في تلك الفترة، طلب والدي منّي أن أعود إلى سيراليون لكنّني رفضت ورحت أبحث عن فرصة عملٍ من دون أن أخبره. بالفعل وجدت وظيفة محاسبة وموظّفة استقبال في أحد المختبرات. اتصلتُ به وأخبرته بأنّني سأبدأ بالعمل، فغضب منّي لكنّه عاد ووافق على مضض.

أقف على الباب ببزّتي الكحليّة، أحاول أن أؤدي قدر المستطاع الدور المطلوب منّي كموظفّة استقبال. أتحدّث اللغة الانكليزيّة بطلاقةٍ مع عناصر من قوّات حفظ السلام، توحي لغة جسدي بامتلاكي شخصيّةً قويّة، وتكشف ابتسامتي أنّي فرحة بعملي. فجأةً يطلّ عمّي من الباب، فتتبخّر ثقتي، أرتبك وأهرول إلى الحمام لأختبئ، لم أكن أريد لعمي أن يراني في العمل، أؤدّي هذه الوظيفة. بالنسبة له ولبقية العائلة كان هذا عملاً تافهاً لا يليق بفتاةٍ تخرّجت من الجامعة. وحده أخي من دعمني آنذاك، قال لي أنّه فخورٌ بي لأنّها أوّل مرّةٍ أتحدّى فيها أبي لأفعل ما أريد.

تبعتني العنصرية من البيت إلى الجامعة ومن ثمّ الوظيفة. اعتادت زميلاتي والزبائن أن ينادوني بـ”السريلانكية”. لم يعاملني أحدٌ بلطف سوى العاملات الأثيوبيات. عندما عرفت الموظّفة المسؤولة عن تدريبي بأنّ أمّي أفريقية ومنفصلة عن أبي قالت: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”.

من بين الجميع في المكتب اختارت أن تتسلّط عليّ، وعاملتني كخادمةٍ لها، فتارةً تطلب منّي أن أحضّر لها النسكافيه وتارةً تأمرني أن آتي لها بمنقوشة، وهي إلى ذلك أجبرتني على طلب الإذن منها للحصول على الاستراحة وعلى إخبارها بكل تحرّكاتي داخل المكتب.

لم تكن تطلب هذه الأمور من أيّ أحدٍ من المتدربات الجديدات، سوايَ أنا.

مع الوقت أدركت أنّها تخشى أن أزاحمها على منصبها، فأنا بارعةٌ في التحدّث مع الزبائن، وتقبلت عملي كموظفة استقبال. بذلت قصارى جهدي للنجاح في هذه الوظيفة، وشجّعني على ذلك ارتياد عناصر قوّات حفظ السلام المتعدّدة الجنسيات إلى المختبر، فكنت أفرح حين أحادثهم بطلاقةٍ بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية. مع الوقت، صارت إدارة المختبر تراني الوجهَ المشرق للمكتب بحرفيتي وابتسامتي الدائمة.

لكن، وبعد سنة من العمل، بدأت أسأل نفسي عمّا أقوم به، وعمّا إذا كان ذلك هو طموحي الفعلي في حياتي. بدأت أفكّر بالسفر من جديد، وأحسست بالحاجة للهروب من هذا المكان الذي يقتلني.

16
تعرّفت خلال عملي إلى شبّان مختلفين، لكنّهم جميعاً تشاركوا نفس النظرة إليّ، ورأوني كأداةٍ جنسية.. كانوا يعرضون عليّ أن نقيم عقد متعة، أي علاقةً عابرة لكن ضمن الأطر التي يقبلها الشرع الدينيّ والمجتمع.

هذا ما حصل مع زميلي من أيام الجامعة أحمد، الشاب ذو الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. كانت فكرة أن يُعجب بي رجلٌ بتلك الصفات أمراً يدعو للفخر والدهشة بالنسبة لي، وذلك بسبب نظرتي الدونية لنفسي. لكنّني سرعان ما اكتشفت أنّه كان كغيره، لا يرى فيّ سوى صورةً نمطيّةً لامرأة ملوّنة لا بد أنها صالحة للجنس وماهرةٌ في الفراش.

طلب منّي أحمد أن نقوم بعقد متعة فاستنكرت ذلك، لكنّه ردّ بكل وقاحة: “لا تتصرّفي وكأنّك عفيفة”، وأضاف: “أخبريني الحقيقة. كم شاباً طلب منكِ ذلك قبلي؟”. لم يلتفت إلى أيّ شيء فيَّ سوى جسدي، ولم يهمّه إن كنتُ مثقفة أو جميلةً أو متعلّمة، و فهمت أنه لم يفكّر بي ولا لحظةٍ واحدةٍ كزوجةٍ أو كحبيبة.

كنت أرى صديقاتي يعشن قصص حبّ فيما كنت أنا وحيدةً، أبحث دون حظٍّ عمّن يحبّني لذاتي، ويعوّضني عن العاطفة التي لم أنلها يوماً.

لم أفرغ حقائبي من الثياب. ظلّ لديّ يقين داخلي بأنّني سأنجح، وبأنّ حياتي ستتغيّر. كنت أقف أمام المرآة وأسرح في مخيّلتي بعيداً إلى ألمانيا. أرى نفسي أحصل على الفيزا فأقفز فرحاً ثمّ أبكي بشدّة.

17
في آب 2017، راسلني هادي لأوّل مرّةٍ بعد انقطاع طويل، وطلب منّي أن أتفقّد بريدي الإلكتروني. استغربت في البداية ولم أرد، فبعث إليّ مرّة ثانية يكرّر طلبه.

فتحت بريدي الإلكتروني وذهلت لمّا وجدتُ رسالة قبولي في إحدى جامعات ألمانيا. قدّم هادي طلب انتسابٍ باسمي إلى الجامعات من دون أن يخبرني بذلك. انسابت الدموع من عينيّ وأنا أقرأ كلماته: “هذه فرصتنا عليكِ أن تقدّمي طلباً للسفر إلى ألمانيا والالتحاق بالجامعة بإمكاننا أن نفعلها، ادّخري المال وتعالي”.

طوال أسبوع عشت كما لو أنّني في حلمٍ لا أريد الاستيقاظ منه، عاد الفرح إلى قلبي وأبقيت الأمرَ سرّاً، إلى أنْ انتبهت عمّتي إلى التغيّر الجليّ في مزاجي. أخبرتها بأنّني قد حصلت على قبول في الجامعة ففرحت لي وشجّعتني. على الرغم من عنصريّتها أحياناً وقسوتها أحياناً أخرى، إلّا أنّها غالباً ما كانت تحفّزني وتدعمني.

بدأت أفكّر في كيفية الحصول على المال، فاتّصلت بأبي الذي أجابني: “هل تظنّين أنّني أتبرّز المال؟ لا مال عندي!”. تدخّلت عمّتي وحاولت أن تقنعه بمساعدتي على تأمين مبلغ السفر. قالت له: “أنت ترى وضعها، هل تريدها أن تظلّ على هذه الحال؟”. كانت تشير إلى أنّه لا مستقبل لي في لبنان كوني سوداء. وفي الوقت نفسه، كانت ترغب بأن أترك بيتها. وبالفعل، نجحت عمّتي بإقناع أبي بمساعدتي من خلال إثارة شفقته عليّ، فأرسل لي مبلغاً من المال أضفته لما ادّخرته.

في كانون الأوّل من العام نفسه، استحصلت على جواز سفر وبدأت بجمع المستندات والأوراق المطلوبة، وحجزت موعداً في السفارة الألمانية. تقدّمت باستقالتي من المختبر، ووضّبت حقيبتي وجهّزتها للسفر. استهزأ الجميع بتعجّلي إذ لم يكن هناك شيءٌ مضمون.

بعد فترةٍ على إجراء المقابلة في السفارة وصلني ردٌّ برفض طلبي لأنّني لا أجيد اللغة الألمانية. غضب أبي كثيراً، ورفضت عمتي إصراري على أن أقدّم طلباً من جديد، مطالبةً إيّاي بإعادة المال الذي كان جزءٌ منه لعمّي أيضاً.

على الرغم من ذلك، لم أفرغ حقائبي من الثياب. ظلّ لديّ يقين داخلي بأنّني سأنجح، وبأنّ حياتي ستتغيّر ولن أضطر للعيش عند عمتي لمزيدٍ من الوقت. آمنت بذلك، وأن باستطاعتي أن أجذب الأشياء الجميلة بمواظبتي على الدعاء والصلاة. كنت أقف أمام المرآة وأسرح في مخيّلتي بعيداً إلى ألمانيا. أرى نفسي أحصل على الفيزا فأقفز فرحاً ثمّ أبكي بشدّة.

كنت مصّممة على الرحيل، فانتظمت في صفوفٍ لتعليم اللغة الألمانية، وقدّمت طلبات انتسابٍ في عدّة جامعاتٍ ألمانيّة. في تموز 2018 وصلني قبولٌ من إحدى الجامعات، فشجعني ذلك على تكريس المزيد من الوقت لدراسة اللغة، وأخيراً تقدّمت للامتحان ونجحت.

عشت بعد ذلك فترةً من التوتّر والقلق في انتظار موعد السفارة الألمانية. لم أخبر عمتي بأنّي نجحت في امتحان اللغة وأنّي قُبلت في الجامعة، لأنّها كانت تقول لي طوال فترة دراستي للغة: “عليكِ بالدرس والتحضير جيّداً، فالشامتون كثر وأنا أوّلهم”.

طلبت من أبي بعض المال لأضعه في حسابي المصرفي، لكنّه رفض بحجّة عدم امتلاكه للمال ومسؤولياته تجاه أخوتي. هنا تدخّلت ابنة عمّي فرح لمساعدتي. كانت فرح شاهدةً على سلوك العائلة العنصري، فوقفت دائماً إلى جانبي ودعمتني معنويّاً. هي نفسها كادت أن تقع ضحيّة لهذا التمييز يوم رفضت العائلة علاقتها بشابٍ هندي، لكنّها تزوّجته وأجبرتهم على قبول قرارها.

هكذا، سلّفتني فرح بعض المال ليكتمل المبلغ المطلوب إيداعه في الحساب.

اكتمل كلّ شيء، ودخلت إلى موقع السفارة لأحجز موعدي، لكن ونتيجة عطل في شبكة الإنترنت، سجّلت الموعد مرتين، ممّا اعتبرته السفارة نوعاً من الغش فألغته. كدت أصاب بانهيارٍ عصبي حين عرفت بذلك، إذ كان ذلك يعني أنّني لن أحصل على موعدٍ جديد سوى بعد شهر، وبالتالي سأفوّت موعد التسجيل في الجامعة. لم أجد حلّاً أمامي سوى الذهاب إلى السفارة في الموعد الملغى.

بالفعل، دخلت في الساعة المحدّدة إلى مكتب الاستعلامات. كان قلبي بين يديّ، أخبرت الموظّف أنّ موعدي كان اليوم لكنّه ألغي بسبب خطأ تقني. رفض الموظّف الاستماع إليّ، وأخبرني أنّ موعدي عند الحادية عشر وأنّه لن يدخلني قبل ذلك. شعرت كما لو أنّ صخرة قد أزيحت عن كاهلي. لكن، وبعد أن سلّمته أوراقي، قال لي أنّ عليّ إعادة طباعة المستندات التي بحوزتي وختمها مجدّداً، لأنّ المسؤولة قد تغيّرت ويجب الحصول على ختم الموظّفة الجديدة. أجبته بأنّني لا أستطيع تأجيل موعدي وإلّا سأخسر التسجيل في الجامعة، فردّ ببرود: “ربّما لا يريد الله لكِ السفر إلى ألمانيا”.

رأتني إحدى الموظّفات وأنا في قمة الإرباك خارجةً من السفارة، فاستفسرت عن المشكلة ثمّ طمأنتني وطلبت مني العودة في يوم الثلاثاء. إن لم أحصل على الفيزا عندها سأخسر عامي الدراسي وستشمت العائلة كلّها بي.

كان ذلك يعني موت الأمل في داخلي تماماً.

يوم الإثنين ذهبتُ إلى بحر صور، وكنت قد كتبت رسالة استغاثة بالإمام الحجة. رميتها في البحر، لكن الرسالة عادت إليّ. حملتها مجددًا ودفعتها في الماء وأدرت ظهري، قلت لنفسي: “لن أنظر”.

عشت عدّة أيّام عصيبة أنتظر اتصالاً من السفارة، إلى أن رنّ الهاتف في تمام الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثلاثاء في الثامن من تشرين الأوّل.

“ألو، لقد تمّت دراسة ملّفك وقد توافرت كل الشروط، عليكِ إحضار ورقة التأمين وورقة تؤكّد قبولك في الجامعة”، قال صوتُ الموظّف.

أقفلت الخط وركضت من فوري إلى عمّتي، حضنتها وأنا أصرخ: “لقد حصلت على الفيزا! سوف أسافر لألمانيا! سأغادر!”.

18
في العاشر من تشرين الأوّل وصلتُ إلى السفارة عند السابعة صباحاً، وانتظرتُ حتّى الرابعة والنصف من بعد الظهر، إلى أن نادوا على اسمي. كان قلبي يخفق بسرعة فيما كانت يداي تفتحان الملفّ. حين رأيت الفيزا مطبوعة على باسبوري بدأت بالبكاء. تحقّق حلمي أخيراً.

كان يوم الحادي عشر من تشرين الأوّل هو الموعد النهائي للتسجيل في الجامعة، لذا سافرت في اليوم نفسه. ودّعت عمّتي وحملت حقيبتي التي لم أفرغها منذ المرّة الأولى، ومضيت إلى المطار. في الرابعة والنصف فجراً أقلعت الطائرة. لم أستطع أن أنام ولو للحظةٍ واحدة طوال الرحلة. عند التاسعة وصلت إلى المطار في ألمانيا حيث كان هادي في استقبالي. توجّهنا من هناك رأساً إلى الجامعة ووصلنا إلى مكتب التسجيل قبل نصف ساعة من موعد إغلاقه في الثانية عشر. قمتُ بالتسجيل وصرت رسمياً طالبةً في جامعةٍ ألمانية.

17
في آب 2017، راسلني هادي لأوّل مرّةٍ بعد انقطاع طويل، وطلب منّي أن أتفقّد بريدي الإلكتروني. استغربت في البداية ولم أرد، فبعث إليّ مرّة ثانية يكرّر طلبه.

فتحت بريدي الإلكتروني وذهلت لمّا وجدتُ رسالة قبولي في إحدى جامعات ألمانيا. قدّم هادي طلب انتسابٍ باسمي إلى الجامعات من دون أن يخبرني بذلك. انسابت الدموع من عينيّ وأنا أقرأ كلماته: “هذه فرصتنا عليكِ أن تقدّمي طلباً للسفر إلى ألمانيا والالتحاق بالجامعة بإمكاننا أن نفعلها، ادّخري المال وتعالي”.

طوال أسبوع عشت كما لو أنّني في حلمٍ لا أريد الاستيقاظ منه، عاد الفرح إلى قلبي وأبقيت الأمرَ سرّاً، إلى أنْ انتبهت عمّتي إلى التغيّر الجليّ في مزاجي. أخبرتها بأنّني قد حصلت على قبول في الجامعة ففرحت لي وشجّعتني. على الرغم من عنصريّتها أحياناً وقسوتها أحياناً أخرى، إلّا أنّها غالباً ما كانت تحفّزني وتدعمني.

بدأت أفكّر في كيفية الحصول على المال، فاتّصلت بأبي الذي أجابني: “هل تظنّين أنّني أتبرّز المال؟ لا مال عندي!”. تدخّلت عمّتي وحاولت أن تقنعه بمساعدتي على تأمين مبلغ السفر. قالت له: “أنت ترى وضعها، هل تريدها أن تظلّ على هذه الحال؟”. كانت تشير إلى أنّه لا مستقبل لي في لبنان كوني سوداء. وفي الوقت نفسه، كانت ترغب بأن أترك بيتها. وبالفعل، نجحت عمّتي بإقناع أبي بمساعدتي من خلال إثارة شفقته عليّ، فأرسل لي مبلغاً من المال أضفته لما ادّخرته.

في كانون الأوّل من العام نفسه، استحصلت على جواز سفر وبدأت بجمع المستندات والأوراق المطلوبة، وحجزت موعداً في السفارة الألمانية. تقدّمت باستقالتي من المختبر، ووضّبت حقيبتي وجهّزتها للسفر. استهزأ الجميع بتعجّلي إذ لم يكن هناك شيءٌ مضمون.

بعد فترةٍ على إجراء المقابلة في السفارة وصلني ردٌّ برفض طلبي لأنّني لا أجيد اللغة الألمانية. غضب أبي كثيراً، ورفضت عمتي إصراري على أن أقدّم طلباً من جديد، مطالبةً إيّاي بإعادة المال الذي كان جزءٌ منه لعمّي أيضاً.

على الرغم من ذلك، لم أفرغ حقائبي من الثياب. ظلّ لديّ يقين داخلي بأنّني سأنجح، وبأنّ حياتي ستتغيّر ولن أضطر للعيش عند عمتي لمزيدٍ من الوقت. آمنت بذلك، وأن باستطاعتي أن أجذب الأشياء الجميلة بمواظبتي على الدعاء والصلاة. كنت أقف أمام المرآة وأسرح في مخيّلتي بعيداً إلى ألمانيا. أرى نفسي أحصل على الفيزا فأقفز فرحاً ثمّ أبكي بشدّة.

كنت مصّممة على الرحيل، فانتظمت في صفوفٍ لتعليم اللغة الألمانية، وقدّمت طلبات انتسابٍ في عدّة جامعاتٍ ألمانيّة. في تموز 2018 وصلني قبولٌ من إحدى الجامعات، فشجعني ذلك على تكريس المزيد من الوقت لدراسة اللغة، وأخيراً تقدّمت للامتحان ونجحت.

عشت بعد ذلك فترةً من التوتّر والقلق في انتظار موعد السفارة الألمانية. لم أخبر عمتي بأنّي نجحت في امتحان اللغة وأنّي قُبلت في الجامعة، لأنّها كانت تقول لي طوال فترة دراستي للغة: “عليكِ بالدرس والتحضير جيّداً، فالشامتون كثر وأنا أوّلهم”.

طلبت من أبي بعض المال لأضعه في حسابي المصرفي، لكنّه رفض بحجّة عدم امتلاكه للمال ومسؤولياته تجاه أخوتي. هنا تدخّلت ابنة عمّي فرح لمساعدتي. كانت فرح شاهدةً على سلوك العائلة العنصري، فوقفت دائماً إلى جانبي ودعمتني معنويّاً. هي نفسها كادت أن تقع ضحيّة لهذا التمييز يوم رفضت العائلة علاقتها بشابٍ هندي، لكنّها تزوّجته وأجبرتهم على قبول قرارها.

هكذا، سلّفتني فرح بعض المال ليكتمل المبلغ المطلوب إيداعه في الحساب.

اكتمل كلّ شيء، ودخلت إلى موقع السفارة لأحجز موعدي، لكن ونتيجة عطل في شبكة الإنترنت، سجّلت الموعد مرتين، ممّا اعتبرته السفارة نوعاً من الغش فألغته. كدت أصاب بانهيارٍ عصبي حين عرفت بذلك، إذ كان ذلك يعني أنّني لن أحصل على موعدٍ جديد سوى بعد شهر، وبالتالي سأفوّت موعد التسجيل في الجامعة. لم أجد حلّاً أمامي سوى الذهاب إلى السفارة في الموعد الملغى.

بالفعل، دخلت في الساعة المحدّدة إلى مكتب الاستعلامات. كان قلبي بين يديّ، أخبرت الموظّف أنّ موعدي كان اليوم لكنّه ألغي بسبب خطأ تقني. رفض الموظّف الاستماع إليّ، وأخبرني أنّ موعدي عند الحادية عشر وأنّه لن يدخلني قبل ذلك. شعرت كما لو أنّ صخرة قد أزيحت عن كاهلي. لكن، وبعد أن سلّمته أوراقي، قال لي أنّ عليّ إعادة طباعة المستندات التي بحوزتي وختمها مجدّداً، لأنّ المسؤولة قد تغيّرت ويجب الحصول على ختم الموظّفة الجديدة. أجبته بأنّني لا أستطيع تأجيل موعدي وإلّا سأخسر التسجيل في الجامعة، فردّ ببرود: “ربّما لا يريد الله لكِ السفر إلى ألمانيا”.

رأتني إحدى الموظّفات وأنا في قمة الإرباك خارجةً من السفارة، فاستفسرت عن المشكلة ثمّ طمأنتني وطلبت مني العودة في يوم الثلاثاء. إن لم أحصل على الفيزا عندها سأخسر عامي الدراسي وستشمت العائلة كلّها بي.

كان ذلك يعني موت الأمل في داخلي تماماً.

يوم الإثنين ذهبتُ إلى بحر صور، وكنت قد كتبت رسالة استغاثة بالإمام الحجة. رميتها في البحر، لكن الرسالة عادت إليّ. حملتها مجددًا ودفعتها في الماء وأدرت ظهري، قلت لنفسي: “لن أنظر”.

عشت عدّة أيّام عصيبة أنتظر اتصالاً من السفارة، إلى أن رنّ الهاتف في تمام الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثلاثاء في الثامن من تشرين الأوّل.

“ألو، لقد تمّت دراسة ملّفك وقد توافرت كل الشروط، عليكِ إحضار ورقة التأمين وورقة تؤكّد قبولك في الجامعة”، قال صوتُ الموظّف.

أقفلت الخط وركضت من فوري إلى عمّتي، حضنتها وأنا أصرخ: “لقد حصلت على الفيزا! سوف أسافر لألمانيا! سأغادر!”.

18
في العاشر من تشرين الأوّل وصلتُ إلى السفارة عند السابعة صباحاً، وانتظرتُ حتّى الرابعة والنصف من بعد الظهر، إلى أن نادوا على اسمي. كان قلبي يخفق بسرعة فيما كانت يداي تفتحان الملفّ. حين رأيت الفيزا مطبوعة على باسبوري بدأت بالبكاء. تحقّق حلمي أخيراً.

كان يوم الحادي عشر من تشرين الأوّل هو الموعد النهائي للتسجيل في الجامعة، لذا سافرت في اليوم نفسه. ودّعت عمّتي وحملت حقيبتي التي لم أفرغها منذ المرّة الأولى، ومضيت إلى المطار. في الرابعة والنصف فجراً أقلعت الطائرة. لم أستطع أن أنام ولو للحظةٍ واحدة طوال الرحلة. عند التاسعة وصلت إلى المطار في ألمانيا حيث كان هادي في استقبالي. توجّهنا من هناك رأساً إلى الجامعة ووصلنا إلى مكتب التسجيل قبل نصف ساعة من موعد إغلاقه في الثانية عشر. قمتُ بالتسجيل وصرت رسمياً طالبةً في جامعةٍ ألمانية.

19
اليوم، أجلس أمام زجاج نافذة منزلي في ألمانيا، وأنظر إلى القطار الذي يمرّ أمامي. أستعيد شريط حياتي في ذهني وأرى كلّ ما عبرت به من صعاب، وأعرف أن بمقدوري الشفاء من ذكرياتي الثقيلة.

اليوم، أسير في الشوارع بشعر مستعارٍ طويل يظهر من تحته شعري الحقيقي الأسود المجعد. أرمّم على مهلٍ علاقتي به، وأعامله كنبتةٍ صغيرةٍ عليّ أن أحبّها وأشرف على رعايتها.

اليوم، صرت أدرس تخصّصاً أحبه. أعمل وأدفع إيجار منزلي.

لم تكن رحلتي سهلة، فبعد عامٍ أمضيناه سويّاً هنا، أدركت أنا وهادي أنّنا لا نشبه بعضنا البعض، فانفصلنا من دون أن ينقطع التواصل بيننا. لكنّني صرت الآن مع شابٍ يحبّني كما أنا، بلوني وشعري وشخصيتي.

اليوم، أمشي فخورةً بأنّي حقّقت حلمي ونجحت بالتخلّص من ظلم أبي. هل أسامحه على ما فعله بي؟ نعم، فأنا لا أرغبُ بذرةً من الحقد في قلبي. لكنّني لا أستطيع التوقّف عن التساؤل إن كنت أستحق التعرّض لكلّ ما تعرضت له من عنف، أو إن كنت “غلطة” لزم على والدي التكفير عنها.

أعلم أنّي أحتاج وقتاً للشفاء. وها أنا أتعلّم أن أحبّ نفسي من جديد لأنّني أستحق ذلك.

19
اليوم، أجلس أمام زجاج نافذة منزلي في ألمانيا، وأنظر إلى القطار الذي يمرّ أمامي. أستعيد شريط حياتي في ذهني وأرى كلّ ما عبرت به من صعاب، وأعرف أن بمقدوري الشفاء من ذكرياتي الثقيلة.

اليوم، أسير في الشوارع بشعر مستعارٍ طويل يظهر من تحته شعري الحقيقي الأسود المجعد. أرمّم على مهلٍ علاقتي به، وأعامله كنبتةٍ صغيرةٍ عليّ أن أحبّها وأشرف على رعايتها.

اليوم، صرت أدرس تخصّصاً أحبه. أعمل وأدفع إيجار منزلي.

لم تكن رحلتي سهلة، فبعد عامٍ أمضيناه سويّاً هنا، أدركت أنا وهادي أنّنا لا نشبه بعضنا البعض، فانفصلنا من دون أن ينقطع التواصل بيننا. لكنّني صرت الآن مع شابٍ يحبّني كما أنا، بلوني وشعري وشخصيتي.

اليوم، أمشي فخورةً بأنّي حقّقت حلمي ونجحت بالتخلّص من ظلم أبي. هل أسامحه على ما فعله بي؟ نعم، فأنا لا أرغبُ بذرةً من الحقد في قلبي. لكنّني لا أستطيع التوقّف عن التساؤل إن كنت أستحق التعرّض لكلّ ما تعرضت له من عنف، أو إن كنت “غلطة” لزم على والدي التكفير عنها.

أعلم أنّي أحتاج وقتاً للشفاء. وها أنا أتعلّم أن أحبّ نفسي من جديد لأنّني أستحق ذلك.

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

كتابة: زينب كنعان
رسم: ثروة زيتون
تصميم: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: صباح جلول

إشراف: إبرهيم شرارة

منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.

محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد

اتصل/ي بنا

او تواصل/ي معنا عبر البريد الالكتروني

انضم/ي إلينا

تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.

القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.