عاملات مكافحات في البلاد الغريبة

عملت ماسرشا، القادمة من إثيوبيا، في منزلَين مختلفين في لبنان. كانت رحلتها طويلة وشائكة في بلدٍ تفتقد فيه أية حماية من الاستغلال وسوء المعاملة. لكنها تعمل اليوم برفقة عاملات منزليات أخريات على خلق مساحة آمنة للعاملات وتوفير المساندة التي افتقدتها هي خلال تجربتها في لبنان.

كتابة: يوسف حاج علي

في البدء… استغلال

تتسلّل رائحة الملوخيّة الشهيّة من المطبخ الجانبيّ إلى الصالة الكبيرة في هذا اليوم البارد من أيام شهر فبراير/ شباط. الملوخيّة، وهي من النباتات العشبيّة البيتيّة، تعدّ واحدةً من الأطباق الشهيرة والمفضّلة لدى الكثير من اللبنانيين. هي من الأطباق التي تصنّف عائليّة بالعادة وتجتمع حولها الأسرة.

في هذه الشقّة من البناء القديم الذي يقع في منطقة الأشرفية في قلب بيروت، وجدت نساء من جنسيات مختلفة بعضاً من دفء عائلاتهن التي افتقدنها بعد مجيئهن إلى لبنان للعمل بـ”الخدمة المنزلية”.

في غرفةٍ أخرى، توزّعت فيها أجهزة كومبيوتر يُظهر تنسيقها أنّها لإدارة هذا المركز وتنظيم نشاطاته، تبتسم الشابة الإثيوبية ماسرشا غريما عندما تُسأَل عمّا يضايقها في لبنان، فأسباب الضيق كثيرة، ممّا يجعلها تتوه في إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عنه.

“الاستغلال” هي أوّل كلمة تحضر على لسان ماسرشا بعد تفكير، وهو استغلال ينطلق من كونها أجنبيّةً قبل أيّ شيء آخر.

ماسرشا، وهو اسمها الأوّل، بات رشا اختصاراً، بعدما وجدت “معلّمتها” (توصيف فوقي يستخدم في اللغة الشائعة للتعبير عن صاحبة العمل) أنّ الاسم طويل يصعب لفظه. بالتالي، ولأنّها لم تألفه، فقد قرّرت “تعديله” من دون العودة إلى صاحبته.

كان الاسم أوّل ما خسرته ماسرشا في لبنان. لم تعرف الشابة المتحمّسة حينها أنّها ستخسر في القادم من الأيام أمانها الشخصي أيضاً، فلبنان كان قادماً على مجموعةٍ من التغيّرات النوعيّة التي أصاب بعضها العالم بأسره، واقتصر بعضها الآخر عليه.

سيتغيّر وجه البلد، وسيحكم على واقعه الاجتماعي بالتدهور إلى مستوى غير مسبوق، من التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا، إلى أزمةٍ اقتصاديّةٍ داخليّةٍ هي الأقسى في تاريخه الحديث، وصولاً إلى انفجارٍ مهولٍ في قلب العاصمة سيترُك فيها جروحاً وندوباً ما زالت مستمرة حتى اليوم.

ربّما لو عرفت ماسرشا كلّ ذلك في وقت مبكر لم تكن لتُقدم على خطوتها بالمجيء للعمل في لبنان.

تخبركِ إحدى الصديقات عن فرصة عمل في لبنان.

يخبرونكِ بأنّه عمل سيعود عليكِ بأجرٍ جيد بالدولار الأميركي.
تبدأين على الفور بالتخطيط للمستقبل: ستبنين منزلاً، ستتابعين تعليمك وسترسلين أطفالكِ إلى المدرسة كذلك، وربما تتمكنين من ادّخار القليل من المال لنفسك.

مفاجأة غريبة

تتشابه قصة ماسرشا مع قصص الكثير من النساء اللواتي قدمن من دولٍ مختلفةٍ، من بينها بنغلادش والسودان وسريلانكا وغانا والفيليبين وكينيا والكاميرون وغيرها، ليكسبن رزقهن كعاملاتٍ منزليّاتٍ في لبنان.

في إثيوبيا كانت ماسرشا أصغر إخوتها الستّة (4 بنات وصبيّان). لطالما حلمت الفتاة بأن يكون لها شأنٌ في حياتها. دفعها طموحها ونشاطها ورغبتها بتغيير واقعها للمجيء إلى لبنان، تاركة خلفها طفلتها الوحيدة بعهدة والدتها، بعد زواجٍ قصيرٍ لم يُكتب له الاستمرار.

كانت تلك المرّة الأولى التي تسافر فيها الصبيّة العشرينية في حياتها. عندما تحرّكت بها الطائرة بدأت الأسئلة تتوالى في رأسها: إلى أين تذهبين؟ مع من ستكونين؟ ماذا ستفعلين؟ بأيّة لغة ستتكلمين؟ هل ستتفاهمين مع العائلة؟

في تلك اللحظة، من مقعدها في الطائرة، شعرت ماسرشا بالبُعد الحقيقي عن الأشخاص الذين ولدت وعاشت بينهم، وأحسّت بثقل هذا الشعور يخنقها.

تبدأ الصدمات الأولى للعاملات الأجنبيات عادةً في مطار رفيق الحريري الدولي (مطار بيروت). عند وصولها، لم تجد ماسرشا “المعلّمة”. ستضطر للبقاء يومين كاملين في حرم المطار، إذ كان ممنوعاً عليها المغادرة إلى حين وصول صاحبة العمل و”استلامها”. انتظرت مع مجموعة من الوافدات، اللواتي منعن من الحركة، حتى لدخول دورة المياه، من دون إذن جهاز الأمن العام. لكنّ الأصعب عليها كان التواصل مع عناصره، فلا هم يجيدون لغتها ولا هي تعرف لغتهم.

في بلدة حصرون التي تقع في قضاء بشرّي (شمال لبنان) حلّت ماسرشا مثل “مفاجأة” على أصحاب الدار. منذ لحظة وصولها، لاحظت النظرات المستغربة في عيون أفراد العائلة. في هذا المنزل الذي ستعيش فيه أكثر من ثلاث سنوات ونصف من عمرها، ستفقد حريتها.

بداية لم تمتلك ماسرشا غرفة خاصة بها. كانت الشرفة الملحقة بالمطبخ حيث وضع غاز الطهي وخزانة المطبخ وسلّة النفايات، والتي يجاورها حمام مهمل، هي غرفة نومها. لم يكن هناك خزانة للملابس، فصارت حقيبة السفر التي لم تجد مكاناً لها على الشرفة خزانةً لها، وصار الحمام موضع هذه الخزانة.

كانت صاحبة المنزل تُقفل عليها باب الشرفة كلّ يوم بعد انتهاء العمل الذي لم يكن له دوام محدد. كان باب الشرفة أشبه بباب زنزانة السجن.

صارت ماسرشا على يقين بأنّ الاسم ليس وحده ما يمكن أن تفقده عاملة أجنبية مثلها في لبنان، بل الكثير من الحقوق الأخرى. يعود ذلك في الأساس إلى الغياب الجدي للتعاطي مع القوانين التي تنظّم العمالة الأجنبيّة في لبنان، وتقاعس الجهات المعنية من وزارات رسميّة وإدارات محلية وسفارات أجنبيّة عن متابعة الإشكاليات القانونية، وأوّلها نظام الكفالة الذي ينظّم العلاقة بين العاملة المنزليّة وصاحب العمل.

يتألف نظام الكفالة من خليط من القرارات والتعاميم والأنظمة والممارسات والأعراف التي تحكم العاملات الأجنبيات في لبنان (من الفئة الثالثة بحسب تصنيف وزارة العمل).

ما هو نظام الكفالة؟ ولماذا لا تستفيد العاملات المنزليات المهاجرات من قانون العمل اللبناني؟

ديالا شحادة، محامية وناشطة حقوقية

أيام صعبة

في تمام السادسة صباحاً يبدأ نهار ماسرشا. تحضر صاحبة المنزل وتفتح الباب المقفل بالمفتاح إيذاناً ببدء يوم العمل الطويل، والذي يستمر حتّى ساعة متأخّرة من الليل. تضمّنت اللائحة اليومية مهمّات عديدة، من بينها غسيل الملابس وكيّها، ومسح الأرض والطبخ، ثم أضيفت إليها لاحقاً مهمّات أخرى مثل الاهتمام بالحديقة وغسيل السيّارات.

عندما تخرج العائلة في نزهةٍ كان باب المنزل وباب البناء الرئيسي يُقفلان، ويُطلب من ماسرشا انتظار رجوع العائلة على الدرج. لم تكن مؤتمنة على البقاء في المنزل وحدها، ولم يسمح لها بمرافقة العائلة. إذا شعرت بالملل يمكنها الصعود إلى سطح البناء المؤلّف من طابقين، والتسلّي بتنظيف السطح. كان هذا أقصى ما يمكن أن تحصل عليه. أمّا عن حاجتها لدخول دورة المياه خلال وقت الانتظار الذي قد يطول… فلا جواب عن هذا السؤال.

حاولت ماسرشا أن تتحمّل كلّ ذلك. لكن أكثر ما كان يجرحها هو انتظار فراغ العائلة من الطّعام كي يُسمح لها بالأكل، على الرغم من أنّها من كان يتولّى مهمّة الطهي يومياً. ذات مرة لاحظت أنّ صاحبة المنزل تُضيف المتبقّي من طعام في صحون أفراد العائلة إلى صحنها. امتعضت ماسرشا، وانتابها شعورٌ بالقرف والاشمئزاز. وستمرّ أيام كثيرة تخلّت فيها عن طبق الطعام وفضّلت النوم جائعة.

لم يكن مسموحاً لماسرشا أن تخرج في يوم إجازتها. ممنوع، ستتكرّر هذه الكلمة كثيراً خلال مدّة إقامتها. ممنوع. ممنوع. ممنوع. حتّى عند مرضها لا يسمح لها بزيارة الطبيب، ويُجلب الدواء إلى المنزل.

غريبة، هذا هو الشعور الذي لازمها طوال الوقت. مع ذلك، لم تفكّر مرّة بالانتقال للعمل عند عائلة أخرى. لم ترغب بمخالفة القانون، وعندما استنفدت كلّ طاقتها وصبرها طلبت المغادرة للعودة إلى بلدها. قالت في نفسها: أعود لمتابعة تعليمي وأبدأ حياة جديدة.

لبنان مرة أخرى

لم تبق ماسرشا في إثيوبيا أكثر من أربعة أشهر. كانت المرّة الأولى التي تلتقي فيها بابنتها ميسكارا وجهاً لوجه بعد انقطاع. وسيكون هذا اللقاء الوحيد… حتى اليوم.

كان من الصعب أن تتابع ماسرشا حياتها في إثيوبيا من النقطة التي تركتها فيها. فالواقع كان مختلفاً تماماً عن الحسابات والتمنّيات ومتطلّبات الحياة الكثيرة. لكلّ هذه الأسباب لم يكن أمامها إلا المغادرة مجدّداً بحثاً عن لقمة العيش.

عادت ماسرشا إلى لبنان لتعمل لدى عائلة جديدة في مدينة جونية الساحليّة (شمال بيروت). في المنزل الجديد ستمرّ عليها أيّام جيّدة وأخرى سيّئة. ستدوم فترة عملها في هذا المنزل سنتين وثمانية أشهر، وقد ارتفع أجرها ليبلغ 200 دولار شهرياً، وذلك لأنّها باتت تتقن اللّغة العربيّة. هذه المرّة، تمكّنت من الحصول على حقّها في الإجازات الأسبوعيّة، لكنّ جواز سفرها ظل محتجزاً في درج خزانة أصحاب المنزل. عند الخروج في إجازة لا يسمح لها بالحصول عليه، ولا يحقّ لها سوى بصورةٍ عن بطاقة إقامتها.

كانت صاحبة المنزل، وهي محامية، على الرغم من كثرة صراخها، راضيةً عن عمل ماسرشا. لكن، عندما جاء يوم وطلبت فيه زيادة تبلغ 50 دولاراً على راتبها، انتفضت صاحبة المنزل في وجهها. قالت إنّها قادرةٌ على توظيف عاملتين أو ثلاث عاملاتٍ بهذا المبلغ لـ”خدمتها”. عندها طلبت ماسرشا السفر إلى بلدها. قال لها زوج المحامية: “سافري وارجعي”، تاركاً بذلك مساحة للتفاوض.

حضّرت ماسرشا حقيبتها بانتظار بطاقة السفر. كانت إقامتها سارية المفعول لمدّة أربعة أشهر، تنتهي مع نهاية العام. فكرت: أسافر وأعود خلال الفترة المتبقيّة قبل انتهاء مدة الإقامة.

في آخر إجازة أسبوعيّة لها قبل السفر، خرجت وعادت مريضة إلى المنزل. كانت تتقيّأ وتعاني من آلام حادّة في بطنها، لتفاجئها صاحبة المنزل بالقول لها: “أنتِ حامل!”.

لم تشعر ماسرشا بالإهانة يوماً مثلما شعرت بها في ذلك اليوم. بالنسبة لشابة قادمة من مجتمعٍ محافظ، لا يعد الحمل خارج إطار الزواج أمراً مقبولاً بأيّ حال. وبما أنّ ماسرشا لم تكن متزوّجة وقتها، فقد وقعت عليها تلك “التّهمة” وقع الإهانة.

رغم كلّ ما شاب علاقتها بصاحبة المنزل إلّا أن ماسرشا كانت تحب أن تنظر لها كأمّ ثانية، لكنّ هذه الصورة تلاشت بلمح البصر بعد تلك اللحظة. لم تعد تريد العودة إلى هذا المنزل، ولم تعد ترغب بزيادة في الراتب. شيءٌ ما انكسر في نفسها. شيءٌ لا يمكن ترميمه بسهولة. شيءٌ اسمه جُرح الكرامة.

ما تعرّضت له ماسرشا من أذىً نفسيّ ومعنوي ومادي، يتشابه مع ما تعرّضت وما تتعرّض له يومياً عاملات منزليّات أخريات، وهو ما وصل في حالة الشابة مريم إلى التحرّش الجنسي بها من قبل صاحب العمل.

آفاق جديدة

في وقت لاحق، تعرّفت ماسرشا على “مركز العاملات الأجنبيات” (MCC)، التابع لـ”حركة مناهضة العنصرية”. صارت تتردّد إليه بين الحين والآخر لتتعلّم اللغة العربية. لا نتحدّث هنا عن اللغة العربيّة المحكيّة التي تتكلّمها، بل عن القراءة والكتابة. أرادت ماسرشا أن تقرأ وتكتب لغة أهل البلاد مثلهم. كانت تريد أن تفهم على ماذا توقّع عندما يُطلب منها التوقيع في كلّ مرة.

عندما وصلت إلى لبنان قبل سنوات لم يكن هناك مترجمٌ يشرح لها حقوقها. العقد الذي وقّعت عليه كان باللغة العربية، التي لم تكن تعرف شيئاً عنها. وقّعت من دون أن تسأل، ومن دون أن تعرف. لم يكن لديها خيار آخر.

صار “مركز العاملات الأجنبيات” فرصة للتلاقي والبحث في الهموم الشخصية. تقاطعت القصص والمشكلات وتكرّرت. ثمّ جاءت فكرةٌ أخرى. سألت النساء أنفسهن: لماذا لا نؤسّس مركزاً خاصّاً بنا؟
كان هذا في العام 2017.

كانت الشابة الإثيوبية بانشي يامر أوّل من طرحت هذه الفكرة. اقترحت بانشي جمع العاملات وتعريفهنّ على حقوقهنّ وتقديم المساعدة الممكنة لهن. لاحقاً، اتفقت النساء المؤسسات على شرح كلّ ما يتعلّق بمسائل الحقوق للوافدات الجديدات من العاملات الأجنبيات. سيكون اسم المركز الجديد مستوحى من هذه اللقاءات تحديداً: “إنيا لنيا”، وهي كلمة باللغة الأمهريّة (اللغة الرسمية في إثيوبيا) تعني: “نحن لبعضنا”.

بدأت الناشطات بإنتاج فيديوهات باللغة الأمهريّة ونشرها على السوشال ميديا. لاحقاً بدأن بالبحث عن العاملات في المستشفيات والملاجئ. أردن معرفة ماذا يحدث خلف هذه الجدران، وبدأن بجمع المعلومات عن الموقوفات المنسيّات في السجون. فمن هنّ في الخارج يملكن القدرة على الكلام. لكن ماذا عن اللواتي لا تُسمع أصواتهن؟ بواسطة التبرّعات، حصلن على مركز خاص بهن. بدأ بصالة واحدة، وتوسّع ليصبح شقّة كاملة ستغيرّ حياة الكثيرات في الأيام القادمة.

بعد سفرها إلى كندا ستسلّم بانشي الدفّة إلى زميلاتها في “إنيا لنيا”، ومن بينهن مديرة المشاريع تسيغيريدا بريهانو.

بلد مأزوم

كان تاريخ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 مفصليّاً في يوميّات اللبنانيّين، وكذلك في حياة المركز الجديد الذي انتقلت إليه العاملات. تاريخٌ سيتذكرّه اللبنانيون طويلاً في السنوات القادمة. انتفض مواطنون في ذلك اليوم، ونزلوا إلى الشارع اعتراضاً على سياسة السلطة الحاكمة. ما بدأ يومها كحراك رافض لقرار الحكومة بفرض ضرائب جديدة، توسّع لاحقاً ليصير تظاهرات وتحرّكات مدنيّة ناشطة ضدّ السّلطة والطّبقة السياسيّة الحاكمة. كان أوّل حراك يرفع شعار “كلّهم يعني كلهم”، قاصداً جميع مكوّنات الطّبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان من دون استثناء.

قبل أشهر على ما بات يعرف باسم “ثورة 17 تشرين”، لاحت إشارات لأزمة اقتصادية مقبلة. أزمة سيتبيّن لاحقاً أنّها أسوأ ما وصل إليه اللبنانيّون، وسيتحمّلون تداعياتها لسنوات كثيرة مقبلة، لا سيّما مع الانهيار المستمر لقدرتهم الشرائية، بسبب التدهور الكبير في قيمة الليرة اللبنانيّة أمام الدولار الأميركي. تدهورٌ سينعكس على حياة ويوميّات اللبنانيّين والمقيمين، لا سيّما العاملات والعمّال الأجانب.

بعد شهرين تقريباً، في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2019، دخل اللبنانيّون والعالم في حالة من الترقّب والخوف بعد ظهور فيروس جديد في مدينة ووهان الصينية. في الشهر التّالي أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أنّ الفيروس الجديد معد ويسبب مرضاً ينتقل بين البشر. بدأ ظهور وفيات بالفيروس الجديد في الصين، ثمّ انتشر ليصير بعد أشهر وباءً عالمياً يهدّد البشريّة جمعاء.

وصل فيروس كورونا الجديد إلى لبنان مثلما وصل إلى غالبيّة دول العالم، واقتضت الإجراءات الاحترازية الحدّ من السفر بين الدول، وفرض الإقفال العام تلو الآخر. أوّل شروط الحدّ من الفيروس الجديد المعدي، كان فرض التباعد الاجتماعيّ الذي لجأت إليه السلطات والحكومات. خلت الشوارع من الناس، وأقفلت المدارس والجامعات، وفرغت المؤسّسات والمحلّات من الزبائن والموظّفين، وباتت التجمّعات من المحظورات.

هذا الواقع الذي امتدّ لأشهر طويلة، دفع بالمئات من المؤسّسات اللبنانية، لا سيّما الصغيرة والمتوسطة، إلى التخلّي عن موظّفيها، ومن بينهم عمّال وعاملات أجانب، وجدوا أنفسهم للمرّة الأولى وحيدين في الشارع، بعدما خسروا عملهم الذي يعتاشون منه ويساعدون عائلاتهم من خلاله.

اعتصمت عاملات منزليات على الأرصفة أمام سفارات بلادهن، من أجل إعادتهنّ إلى أوطانهنّ، بعدما انهارت القدرات المالية لأصحاب العمل مع التدهور المستمرّ لليرة اللبنانيّة، ليقرّروا التخلّي عن خدماتهن.

لعلّها كانت المرّة الأولى التي يتخلّى فيها لبنانيّون، بشكلٍ جماعي، عن العمالة المنزليّة التي لطالما اعتمدوا عليها. بدأت عادة الاستعانة بالعمالة المنزلية بالانتشار في مطلع التسعينيات، وغالباً ما نظر إليها على أنّها نوعٌ من الترف، وفي أحيانٍ أخرى حاجة ضرورية للبيت، مع عودة البلد إلى سكّة الاستقرار، وعودة معظم أفراد الأسر إلى العمل إثر انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).

كان العام 2019، بكلّ ما حمله، العام الذي تتراجع فيه منذ سنوات، وبشكلٍ واضح، أعداد إجازات العمل الجديدة التي تمنح للعاملات المنزليّات، كمؤشّر عن تغييرات قادمة في نوعيّة حياة اللبنانيين.

قبل الأزمة الاقتصادية التي بدأت ملامحها تظهر في الأشهر الأولى من عام 2019، بلغ عدد الإجازات الممنوحة لأول مرة (أي الإجازات الجديدة) رقمين متقاربين، زادا عن الـ70 ألف إجازة لعامي 2017 و2018.

أخذ التراجع منحى شديد الانحدار عام 2019، حيث انخفض من 70857 إجازة و76570 إجازة، عامي 2017 و2018 على التوالي، إلى 35957 إجازة.

تابع عدد الإجازات الممنوحة لأول مرة تراجعه الحاد عام 2020، ثم استقر نسبيا عند رقم يقل عن 10 آلاف إجازة نهاية عام 2021.

ويكشف توزع الإجازات الجديدة بحسب الجنسيات، عن تفاوت كبير في أعداد العاملات القادمات إلى إلى لبنان، والدول التي أتين منها.

ويعود هذا التفاوت في الأرقام إلى قرار فئة من اللبنانيين الإبقاء على الإفادة من “الخدمة المنزلية”، في ظل أزمتها المالية، وذلك من خلال استقدام يد عاملة “رخيصة”.

غير أن أرقام إجازات العمل الجديدة لا تكفي وحدها لشرح واقع العاملات الأجنبيات في لبنان، إذ تراجعت أيضا أعداد الإجازات المجددة، ما يعني ارتفاع نسبة العاملات اللواتي تركن لبنان، أو اللواتي بتن يُقمن ويعملن بشكل “غير قانوني”.

قبل الأزمة الاقتصادية التي بدأت ملامحها تظهر في الأشهر الأولى من عام 2019، بلغ عدد الإجازات الممنوحة لأول مرة (أي الإجازات الجديدة) رقمين متقاربين، زادا عن الـ70 ألف إجازة لعامي 2017 و2018.

أخذ التراجع منحى شديد الانحدار عام 2019، حيث انخفض من 70857 إجازة و76570 إجازة، عامي 2017 و2018 على التوالي، إلى 35957 إجازة.

تابع عدد الإجازات الممنوحة لأول مرة تراجعه الحاد عام 2020، ثم استقر نسبيا عند رقم يقل عن 10 آلاف إجازة نهاية عام 2021.

ويكشف توزع الإجازات الجديدة بحسب الجنسيات، عن تفاوت كبير في أعداد العاملات القادمات إلى إلى لبنان، والدول التي أتين منها.

ويعود هذا التفاوت في الأرقام إلى قرار فئة من اللبنانيين الإبقاء على الإفادة من “الخدمة المنزلية”، في ظل أزمتها المالية، وذلك من خلال استقدام يد عاملة “رخيصة”.

غير أن أرقام إجازات العمل الجديدة لا تكفي وحدها لشرح واقع العاملات الأجنبيات في لبنان، إذ تراجعت أيضا أعداد الإجازات المجددة، ما يعني ارتفاع نسبة العاملات اللواتي تركن لبنان، أو اللواتي بتن يُقمن ويعملن بشكل “غير قانوني”.

استمرّ التدهور الاقتصاديّ والاجتماعيّ في لبنان مع التدهور المستمرّ لقيمة العملة الوطنية من ناحية، وجشع التجّار من ناحية أخرى. فُقِدت سلعٌ أساسيةٌ من الأسواق مثل المحروقات والأدوية وحليب الأطفال والزيت، إذ قام المحتكرون بإخفائها من أجل رفع أسعارها وزيادة أرباحهم من دون أيّ رقابة من الحكومة.

أيامٌ صعبةٌ مرّت على اللبنانيين والمقيمين على حدٍّ سواء، لكنّ الأصعب لم يكن قد حدث بعد.
في الرابع من آب 2020 وقع انفجار مهول في أحد عنابر مرفأ بيروت، بسبب اشتعال شحنة من مادة نترات الأمونيوم، سُمِعَ دويّه في أنحاء مختلفة من لبنان والدول القريبة.

تسبّب الانفجار، الذي قال خبراء أنّه واحدٌ من أكبر الانفجارات غير النوويّة في كلّ العصور، بسقوط أكثر من مئتيّ قتيل وآلاف الجرحى، وتضرّر عشرات آلاف المنازل والمؤسّسات التجاريّة والسياحيّة والطبيّة والتربويّة، وخسائر قدّرت بمليارات الدولارات. إثر ذلك أُعلِنت بيروت “مدينة منكوبة”. كان من بين الضحايا والمصابين عاملات أجنبيات من اللواتي يسكنّ أو يعملن في المناطق المحيطة بالمرفأ. هكذا وجدن أنفسهنّ من دون عمل أو منزل أو حماية أو حتّى تغطيّة طبية.

تزامناً مع هذه الضربات المتتاليّة اجتمعت الناشطات وسألن أنفسهنّ سؤالين: ماذا يمكننا أن نفعل؟ وكيف يمكننا أن نساعد؟

كان الهدف إيجاد أجوبة حول القدرات الممكنة لمساعدة النساء في قطاع العمالة المنزليّة، اللواتي يعتبرن من أكثر الفئات هشاشة بين العمال الأجانب في لبنان.

اجتمعت ماسرشا ورفيقاتها وقرّرن أن “العمل الحقيقي يبدأ الآن”. عمل سيغيّر في حياة نساء غرقن في ظروف ومآسي وأوجاع هذه البلاد.

كانت ماسرشا من بين اللواتي سارعن لاستقبال العاملات في غرفة صارت تسكنها بعدما انتقلت إلى عمل جديد، وقد وصل عددهن في مرة من المرات إلى 16 عاملة في الغرفة الواحدة.

البحث عن الأمل

ادّخرت العاملات، ومن بينهن ماسرشا، رواتبهن من العمل لمساعدة الأخريات. ماسرشا نفسها تخلّت عن التنقل بسيارات الأجرة ما بين عملها ومنزلها، وصارت تذهب مشياً على القدمين يوميّاً من مكان سكنها في الضاحية الجنوبيّة لبيروت إلى مقر عملها في منطقة المكلس بقضاء المتن الشمالي في محافظة جبل لبنان. لكنّها، مع ذلك، كانت تقطع الكيلومترات الفاصلة بين المكانين على قدميها بحماس، فقد كانت مؤمنةً بما تفعله. تسير يومياً 45 دقيقة ذهاباً و45 مثلها إياباً، كي تتمكّن من توفير المساعدة للأخريات. في بعض الأحيان اضطرت إلى حمل المساعدات والخروج في أيام كان ممنوعاً التجوّل فيها، بسبب التدابير الاحترازيّة للحدّ من انتشار فيروس كورونا.

لم تكن ماسرشا قادرةً على ترك زميلاتها عرضةً لمخاطر الشارع، وما قد يحمله من أذى وتحرّش، وربّما ما هو أكثر فداحة من ذلك.

كان تأمين بدلات الإيجار واحدة من مشكلات عديدة واجهت العاملات بعدما تخلّى عنهنّ أصحاب العمل، وخسرن غرفهنّ المستأجرة لعدم قدرتهنّ على دفع قيمة إيجارها. عندها بدأت مجموعة “إنيا لنيا” باستيعابهن. كانت الأولويّة للعاملات المصابات بفيروس كورونا وللأمّهات العازبات، فالكبار يستطيعون التحمّل، أمّا الرضّع والأطفال فلا يملكون ذلك.

بدأت ماسرشا وزميلاتها بمبادرة منهن. قرّرن تأجيل التزاماتهنّ تجاه عائلاتهنّ في البلاد للاهتمام بضحايا الظروف الجديدة، وبدأن بالمساعدة من رواتبهن الشخصية.

نشطت المجموعة في إنتاج فيديوهات على السوشال ميديا للتعريف بما يقمن به، ورحبن بالمساعدات من الناس. في البداية كانت المساعدات عينيّة: معكرونة وأرز وزيت وحليب وحفاضات أطفال، كلّ ما قد تحتاجه الأمّهات.

شاركت الناشطات في دفع إيجارات من عجزن عن دفع بدلات إيجارهن، وقمن بتأمين الأدوية والفيتامينات والفحوصات المخبرية للمصابات بكورونا. لاحقاً أطلقوا حملة تمويل. من يشاهد الفيديو ويؤمن بما يفعلنه بإمكانه أن يشارك ويساعد، فهناك حساب دعم مفتوح لهذا الغرض.

عندما اشتدت الأزمة الاقتصاديّة مع تدهور العملة الوطنيّة أكثر فأكثر، اضطرت المجموعة لإعادة ترتيب الأولويات. تخلّين عن المواد الثانوية لصالح الأهم منها. صلصة الطماطم مثلاً ليست بأهميّة الزّيت والسكّر. كان الهدف الأساس ألّا يتوقّفن وأن يتمكنّ من الاستمرار بتأمين الدعم “مهما كان الثّمن”.

دعت بعض السفارات العاملات غير القادرات على السفر إلى التقدم لتسوية أوضاعهن. أُعطيت اللواتي يفتقدن الإقامة القانونية فترة سماح. تولت “إنيا لنيا” دفع ثمن بطاقات السفر بالنيابة عن بعضهنّ، ليس فقط الإثيوبيات، بل القادمات من سيراليون وكينيا أيضاً.

لم يكن أداء السفارات موازياً للتوقعات المعقودة عليها، إن كان خلال الأزمة الحالية أو حتّى قبلها. بعضها خصّص ملاجئ للعاملات كانت أشبه ما تكون بالمخازن. غرفٌ يتسلّل إليها مطر الشتاء وترسم الرطوبة جدرانها، وتضطرّ عشرات النساء لاقتسامها مع حمّامٍ وحيدٍ يدخلن إليه بنظام المناوبة.

بذرة صارت مشاريع

في مركز “إنيا لنيا”، وجدت العاملات بعض الأمان المفقود. يلتقين فيه كعائلة. يتناقشن، ويُفضفضن عن مخاوفهن، ولا يُخفين شيئاً عن بعضهنّ البعض. يتحدثن بكل ما يحصل معهن، وما قد يواجهنه في أيّامهن.

لاحقاً، سيؤسّسن المركز الثاني لـ”إنيا لنيا” في إثيوبيا نفسها. هناك حاجة ضرورية إلى ذلك، فالعاملات اللواتي يرجعن إلى الوطن يحتجن إلى ما يمكن أن يساعدهنّ على الاستمرار. لذلك بادرت المجموعة قبل أكثر من عام، إلى تأسيس مركز يهتم بتعليم العائدات إلى الوطن، ومعظمهنّ من الأمّهات العازبات، مهناً مختلفة.

ليست رائحة الملوخيّة الشهيّة وحدها التي انبعثت من المركز في هذا اليوم البارد من شهر فبراير. رائحة زكية أخرى تفوح أيضاً في فضاء الصالة الواسعة لهذا المنزل البيروتيّ العتيق: رائحة الصّابون بنكهاته المختلفة الممدّد فوق الطاولات. تعليم صناعة الصابون هي إحدى المبادرات العديدة لـ”إنيا لنيا”. صحيحٌ أنّ المتدربات لم يبعن بعد ما صنعنه من أشكال وألوان مختلفة من الصابون، لكنهنّ يطمحن إلى ذلك.

الفكرة التي بدأت كنواة صغيرة بين مجموعة من الصديقات صارت مع الوقت أكثر من مشروع. يُدرّس المركز اليوم اللغة الإنكليزية، وينظّم ورشات في التخطيط الأسري تعلّم كيفيّة الاهتمام بصحّة الأطفال والعائلة والنساء الحوامل. يُعرّف المركز العاملات على القانون اللبناني، ويقدّم لهنّ الدعم بواسطة محامين. إذ قد تحدث مشكلات مع العاملات بعدما يتركن منزل أصحاب العمل، مثلما حدث مع ماسرشا. وقد يحدث أن يتّهمهنّ البعض بالسرقة، افتراءً أو انتقاماً، ويتعرّضن لدعاوى قضائية تمنعهنّ من مغادرة البلاد.

استفادت ماسرشا ونساء كثيرات من جنسيّات مختلفة من وجود “إنيا لنيا” ومن المبادرات التي أطلقتها بنصيحة، بمساعدة، بمعلومة، بدعم، وربّما باستشارة قانونية. كلّ من يعدّ أجنبياً في هذه البلاد يحقّ له الاستفادة من الخدمات التي تقدمها “إنيا لنيا”.

لكن ما قدّمته “إنيا لنيا”، على أهميّته ومردوده وتأثيره في حياة عدد من العاملات، يظلّ مثل شمعةٍ تحاول أن تضيء غرفة مظلمة وواسعة، لكنّها تحتاج إلى ضوء الكثير من الشموع.

على الرّغم من نُبل فكرة أصحاب المشروع، إلّا أنّه يظلّ مبادرة فردية محدودة، وغير قادرة على مساعدة أخريات علقن في نفس المشكلات القانونية والحياتية التي علقت فيها ماسرشا وصديقاتها.
تظلّ الحلول النهائيّة والحاسمة لإنقاذ هؤلاء وحمايتهن من مسؤوليّة السّلطات والمؤسّسات الرسميّة والأجهزة المعنيّة، والتي تشكّل وحدها مظلّة حماية حقيقية لجميع المُقيمين فوق أراضيها.

لن تغادر ماسرشا لبنان في الوقت الحالي ولا في المستقبل القريب. هي على يقين من ذلك. هناك عاملات لا زلن يتوافدنَ إلى البلد، والمشاكل لم تنته بعد.

تعرفُ ماسرشا طبعاً أنّها ليست مسؤولةً عنهن. تعرف ذلك جيّداً. لكنّها تدرك أهميّة دورها تجاههنّ. في “إنيا لنيا” وُلِدَ معها شيءٌ مهم. شيءٌ قرّرت أنها ستحمله في داخلها دائماً. شيءٌ بات جزءاً لا يتجزأ منها.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

كتابة: يوسف حاج علي
رسم: ثروة زيتون
فيديو: علي شيران، فرات شهال الركابي
تصوير فوتوغرافي: حسين بيضون
تصميم: إبراهيم شرارة
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: صباح جلول

إشراف: إبراهيم شرارة

هذا المشروع هو جزء من المبادرة العالمية
“الشفافية وحرية الصحافة – الصمود أثناء الجائحة”.

هذا المشروع هو نتيجة ورشة عمل أقامتها أكاديمية دويتشه فيله. جميع الآراء الواردة في هذا المشروع تخصّ المؤلّفين ولا تعكس آراء مؤسسة دويتشه فيله.