أنس علي

أنس علي

الفصل الأول

ولدت صابرين أبو العلا في أيلول من العام 1992، في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب العاصمة السورية دمشق، لأسرةٍ فلسطينية من قرية شفا عمرو. أتمّت المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس الأونروا، قبل أن تنتقل للتعليم المهني وتدرس الفنون الجميلة.
كانت صابرين فتاة فضوليةً ومتحمّسة، تحبّ أن تنجز أعمالاً خارج المقرّر الدراسي مثل الرسم والتطريز على القماش. كانت تقتني أنواعاً وألواناً وأشكالاً مختلفةٍ من الأقمشة. تذهب يومياً إلى “مكتبة السكّر”، مكانها المفضل الذي لا تضجر منه، حيث تطرّز بخيطان الصوف أسماء معلماتها لتقدّمها لهنّ. كانت هذه الأشياء البسيطة تسعدها جداً وتشعرها بالإنجاز. أمّا صبيحة أيام الجمعة، فكانت تستيقظ عند السابعة لتزور جارتها أم علي لتعلّمها التطريز الفلسطيني. كانت المرأة واحدةً من الشخصيات المعروفة والمحبوبة في المخيم. تجتمع في منزلها الفتيات لتنقل إليهنّ ما تعلّمته من جدّتها في فلسطين.
لعبت أم علي دور المشجّعة الأولى لصابرين، فثابرت في دراستها وخطّطت لتقديم امتحان شهادة البكالوريا الأدبيّة بشكل حرّ، ومن ثمّ متابعة تحصيلها الجامعي في مجال العلوم الإنسانية. كان دافعها الأساسي لذلك هو طلاقة لسانها التي جعلت أهلها يطلقون عليها لقب المحامية لبراعتها في الدفاع عن إخوتها، وكذلك موهبتها الأدبية التي اكتشفتها أختها الكبرى حينما كانت في الصف الثاني الابتدائي، ممّا دفع عائلتها لتشجيعها على المثابرة على الكتابة.
قبل وقتٍ قصيرٍ على اندلاع الحرب في سوريا، ذهبت صابرين إلى “مكتبة السكّر” في مخيم اليرموك، واشترت الكثير من خيطان الصوف والكروشيه لتبدأ بالعمل على مشروع التخرج.
لم تكن تتوقّع عندها أنّ الحرب القادمة ستقضي على جميع أحلام الطفولة وستدفعها للتخلّي عن كلّ ما خطّطت له.

الفصل الثاني

ذات يوم، في العام 2012، وبعد وقتٍ قصير على بدء دوامها الدراسي، انفجرت سيّارة مفخّخة أمام المعهد الذي تدرس فيه صابرين في منطقة المزّة.
في ذلك الصباح، خرجت الشابة كما كلّ يوم من منزلها عند الساعة السابعة صباحاً، لتستقلّ حافلة “هرشو الأخضر” إلى المعهد. عادةً ما كان السائق يشغّل أغاني فيروز، إلّا أنّه في ذلك اليوم شغل إذاعة القرآن، ممّا بثّ في صابرين إحساساً غامضاً بأنّ الأمور ليست على يرام. بعد خمسة دقائق على وصولها، وقع الانفجار خلف الحائط الذي كانت تستند عليه. حتّى اليوم ما زال الصوت يتردّد في رأسها في كلّ مرّة تستذكره. لم تستطع وقتها أن ترى صديقاتها بسبب الغبار الذي ملأ المكان، وأحسّت بدقّات قلبها تتسارع. تفقدت جسدها خوفاً من أن تكون مصابة، لكنها نجت مع غيرها من الطلبة. مع ذلك، كان لتلك الحادثة أثرٌ كبيرٌ على حياتها، إذ فقدت إحساسها بالأمان، وقرّرت التوقّف عن الذهاب إلى المعهد. لم تتوقع وقتها بأنّ الحرب ستستمر، ولا أنّ تحصيلها العلمي سيتوقّف بسبب ذلك، كما لم تعرف أنّ النيران ستصل إلى المخيم قريباً.
ظنّت أنّ كلّ ذلك مؤقت وأنّها ستعود إلى الدوام بعد فترةٍ قصيرة. ولم تكن صابرين وحدها من تعتقد ذلك. حتّى والدها رفض فكرة ترك المنزل إلى مكانٍ أكثر أماناً، وكانت حجّته في ذلك أنّ الاشتباكات بعيدة عن حيّهم. لم يكن الأب راغباً بتكرار ما حصل معهم في فلسطين، حتّى بعد وصول الاشتباكات إلى المخيم.
لكن، وفي صبيحة أحد الأيام استيقظت العائلة على صوتِ الجار ينادي أباها: “يا أبو مهند، يا أبو مهند، عم بقولوا اليوم رح يجي طياران الميغ ويقصف المخيم”. انتشر الخبر، وبدأ الكثيرون بإخلاء المخيم. عند التاسعة صباحاً، بدأت محاولاتها مع إخوتها لإقناع والدها بترك المنزل، واستمروا على هذه الحالِ لثلاث ساعاتٍ متواصلة. من جهة أخرى، كانت العائلة قلقة على صابر، شقيق صابرين، الذي يعمل في الجهاز الإسعافي الفلسطيني في المخيم. بالنسبة للفتاة كان أخوها “سوبرمان” حقيقي، لا يخشى على حياته بقدر ما يخشى على الجرحى والمصابين.

وصلت الحرب إلى هنا أيضاً، وصار الوضع مرعباً. نادى الشيوخ في المساجد على الناس طالبين منهم إخلاء المنطقة، لكنّ جميع الطرقات كانت قد أغلقت..

في النهاية، خرجت العائلة إلى منزل عمّ صابرين في أحد ضواحي دمشق. هناك اجتمع أكثر من ثلاثين فرداً في غرفتين ومطبخٍ وحمّام. ظلّ والدها مقتنعاً أنّهم سيعودون إلى المنزل بعد فترةٍ وجيزة، ممّا خفّف من معاناتهم في البداية. لكن، وبعد مرور أسبوعين، ازدادت وتيرة الاشتباكات ووصلت إلى منزل عمّها. اضطرّهم ذلك للذهاب إلى منزل عمّتهم في مخيم خان الشيح، حيث كان الحال مأساوياً من جميع النواحي، في ظلّ غياب الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
امتدّ هذا الوضع لمدّة شهر، عاشوا خلاله على العدس والبرغل، إذ لم يتوفّر غيرهما، فيما كان صابر يذهب إلى الفرن في السادسة من صباح كلّ يوم ويعود عند الثالثة بعد الظهر ليحصل على ستّ ربطات من الخبز الذي غدا الحصول عليه أمراً شديد الصعوبة، خاصة بعد إغلاق معظم أفران المدينة بسبب الاشتباكات.
بسبب الوضع السيء وانتشار أخبار القتل والانفجارات والدمار، وجدت صابرين نفسها مضطرّة للبحث عن شيءٍ ترفّه من خلاله عن نفسها. لهذا السبب قرّرت أن تجمع أطفال العائلة للعب ولتعلّمهم بعض الأشغال اليدوية والرسم. كان ذلك يذكّرها بجارتها أم علي، التي اعتادت على نقل معرفتها ومهاراتها للآخرين. بثّت هذه الأنشطة بعض الأمل فيها، وجعلتها متفائلة بعض الشيء بأنّ هذا الوضع الصعب لن يطول. لكن، وبعد مرور عدّة أشهرٍ أخرى وصلت الحرب إلى خان الشيح، فاضطرت العائلة مرّة أخرى للنزوح، وهذه المرة إلى منزل أختها في منطقة جيرود.
في الثامن من حزيران من العام 2013، صحت صابرين والعائلة على أصوات الرصاص والهاون. وصلت الحرب إلى هنا أيضاً، وصار الوضع مرعباً. نادى الشيوخ في المساجد على الناس طالبين منهم إخلاء المنطقة، لكنّ جميع الطرقات كانت قد أغلقت. أجبرت العائلة على قضاء ليلةٍ مروّعة في محطة وقود بعيدة بعض الشيء عن مواقع القصف. ظلّت صابرين مستيقظة طوال الليل، ومع طلوع الصباح اتّخذت العائلة قرارها باللجوء إلى لبنان.

الفصل الثالث

فرحت صابرين لأنّها ستتعرّف إلى بلدٍ جديدٍ مطلّ على البحر وبعيدٍ عن الحرب، وفي الوقت نفسه حزنت لأنّها ستبتعد عن العائلة والمخيم. أما والدها فكان مؤمناً أنّ غيابهم لن يطول أكثر من شهرين أو ثلاثة. جعلها ذلك واثقةً بأنّها ستعود إلى غرفتها ومعهدها وكتبها. كانت أكبر مشكلةٍ بالنسبة لها هي أنّ تخرّجها سيتأجّل عاماً إضافياً.
لم تكن هناك عراقيل على دخول اللاجئين إلى لبنان آنذاك، مقارنةً بما هو عليه الوضع اليوم. أثناء عبورهم الحدود كان الصيف على أشدّه، ومع ذلك كانت صابرين ترتدي الثياب الشتوية نفسها التي خرجت بها من مخيم اليرموك. لكنها لم تعر هذه التفاصيل أيّ اهتمام، فقد كان تركيزها منصباً على وصولها وعائلتها إلى مكانٍ آمن، علّها تستعيد فرصة متابعة تعليمها.
عند وصولهم إلى لبنان، اختارت العائلة الإقامة في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، حيث كان والدها واحداً من الفدائيين الموجودين في المخيم خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. دخلت صابرين إلى المخيم في العاشرة ليلاً، وكان المكان معتماً خالياً من أيّ مظهرٍ من مظاهر الحياة. بالكاد تمكّنت الفتاة من رؤية السماء، إذ كانت تغطّيها الكابلات الكهربائية الممتدة كشبكة العنكبوت. ثمّ انتبهت لشبان لم يتجاوزوا العشرين من العمر، يحملون السلاح ويقفون بجانب دشمٍ صغيرة.
بدا كلّ شيءٍ موحشاً بالنسبة لها، وزاد مسكنهم الأوّل من وحشتها، إذ كان عبارةً عن غرفةٍ واحدةٍ مع “مجلى” مثبّت على الحائط وحمام صغير جدّاً. كان سقف البيت من “الزينكو” الذي يصدر أصوات طقطقة من شدّة الحرّ، ولم يكن هناك فرش نومٍ تكفي الجميع، فاضطروا لوضع الثياب داخل بعضها البعض ليصنعوا منها وسائد للنوم.
لم تعتد صابرين على المكان بسرعة، وظلّت المقارنة بين مخيم اليرموك ومخيم عين الحلوة حاضرة في ذهنها طوال الوقت. هنا كلّ شيء مختلف، المساحات والمنازل ضيقة، وكذلك هي الـ”زواريب” التي بالكاد تتّسع لإدخال براد. أما الخصوصية فتنعدم في بيوت متلاصقةٍ جنباً إلى جنب.
عند ذهابها لشراء بعض الحاجيات، التقت صابرين بزوجة صاحب المنزل التي قالت لها: “مبارح بالليل سمعتكن عم تحكوا أنو بدكن تطلعو من البيت. نحن هون عيلة وحدة إذا بدكن شي خبروني”. تساءلت الشابة في سرّها عمّا إذا كانت الحارة كلّها تستمع لمحادثاتهم.

عانت صابرين في تلك المرحلة من عنصرية مزدوجة، عنصرية لأنّها فلسطينية آتية من سوريا، وعنصريةٌ لأنّها فلسطينية من عين الحلوة. كانت كلمة سوري تقال كما لو أنّها إهانة، لا كإشارة إلى الجنسية..

بعد خمسة أشهر في ذلك المكان، أرسل لهم أحد الأقارب بعض المال ليستأجروا بيتاً أفضل. انتابت صابرين مشاعر متناقضة: فرحت لأنّها ستنتقل من هذا الحي، وحزنت لأنّ ثمّة آخرين مجبرون على العيش في بيوتٍ كهذه.
قبل اندلاع الحرب في سوريا كانت صابرين تتابع التقارير التي تتناول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وبالتالي كانت على دراية بالظروف السيئة التي يعيشون فيها. لكنّ ذلك لم يخفّف من صدمتها عند وصولهم إلى المخيم. كان الوضع مختلفاً تماماً عن اليرموك. أحسّت صابرين بنوع من التمييز في لبنان، حتّى من الفلسطينيين داخل المخيم، الذين كانوا ينادونها بالـ”سورية” على الرغم من أنّها فلسطينية مثلهم. كانت كلمة سوري تقال كما لو أنّها إهانة، لا كإشارة إلى الجنسية. عدا عن استغلال أوضاع القادمين من سوريا لرفع بدلات الإيجار.
عانت صابرين في تلك المرحلة من عنصرية مزدوجة، عنصرية لأنّها فلسطينية آتية من سوريا، وعنصريةٌ لأنّها فلسطينية من عين الحلوة. عندما صادفت إعلاناً لمحل ثيابٍ يبحث عن موظّفةٍ للعمل في صيدا، دخلت للتقدّم للوظيفة. جرت المقابلة على ما يرام. أجابت على الأسئلة وتحدثت عن خبراتها السابقة، ثمّ بدا شيءٌ من الارتياب على المرأة، في المحل، فسألتها:
– “من وين أنتِ؟ كأنو لهجتك مش لبنانية”.
– “أنا فلسطينية”، أجابتها صابرين.
عندها، قالت المرأة، وهي تصطنع التعاطف:
– “حبيبتي بعتذر نحن ما منوظف فلسطينيين هون”.
فوجئت صابرين، وسألت المرأة عن السبب، خاصةً أنّها بدت، قبل لحظات فقط، معجبةً بما تستطيع القيام به. لكنّ المرأة برّرت الأمر بالقول إنّها أوامر صاحب المحل. عندها، بدأت الأمور تتضح أكثر فأكثر لها، واختبرت لأوّل مرة العنصريّة ضد اللاجئين الفلسطينيين، وهي عنصريّة تمارسها الدولة قبل كلّ شيء. إذ تمنع عليهم القوانين ممارسة الكثير من المهن، وتحرمهم من التأمين الصحّي ومن تعويض نهاية الخدمة.
في معظم الأحيان، يضطر أصحاب الشهادات الجامعية من الفلسطينيين للعمل في مهنٍ بسيطة، لا علاقة لها بما درسوه في الجامعة. هذا حال صديقتها رنا مثلا التي درست الإعلام وتعبت في دراستها، لتجد نفسها في النهاية تعمل في مشتلٍ للزهور، لتأمّن معيشتها.

الفصل الرابع

دمّر توقّف صابرين عن إكمال تحصيلها الدراسي شغفها واندفاعها. يوماً بعد يوم رأت حلمها يتلاشى أمامها. في البداية، لم يسمح لها وضع الأسرة بأن تعود إلى مقاعد الدراسة، ووجدت نفسها مضطرّة لإيجاد وظيفةٍ في متجرٍ لأدوات الخياطة والصوف في صيدا. كانت هذه فرصة العمل الوحيدة التي حصلت عليها، وفي الوقت نفسه لم تكن أسوأ فرصة، فهي على الأقل لديها بعض المعرفة نظراً لعملها سابقاً بالتطريز. كان أجرها خمسة عشر ألف ليرة لبنانيةٍ فقط، مقابل ثمان ساعات من العمل المتواصل. كانت تستيقظ عند الساعة الثامنة من صباح كلّ يوم لتذهب إلى العمل مشياً على الأقدام، إلى المتجر الذي يبعد عن بيتها ثلاثة كيلومترات، إذ كانت كلفة المواصلات توازي ثلث معاشها اليومي.
عرفت صابرين أنّها تتعرّض للاستغلال، لكنّها كانت بحاجةٍ إلى المال. حالها في ذلك حال عاملةٍ فلسطينية أخرى، تعمل في المتجر نفسه منذ عشرين عاماً، وتقبض خمسمئة ألف ليرةٍ شهرياً مقابل عدد ساعات عمل أطول. لم يكن باستطاعتهما المطالبة بزيادة على الراتب، لأنّ صاحب العمل سيطردهما ببساطةٍ ويوظّف غيرهما ممن يقبلن بهذا الأجر.
رأت صابرين في هذا الاستغلال الدافع الرئيسي وراء حالة اليأس عند اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فهم يعاملون معاملة الأجنبي، ويفرض عليهم القبول بالفتات الذي بالكاد يكفيهم لتحصيل قوت يومهم، أو الهجرة إلى مكانٍ يستطيعون العيش فيه بكرامة. هذا ما حصل لشقيقها الأكبر مهنّد، الذي اتّخذ قراره بالرحيل فورَ وصوله إلى لبنان. كان يصل الليل بالنهار في العمل ليجمع أربعة آلاف دولار، هي كلفة السفر عبر شبكات التهريب إلى أوروبا.

لم تستطع صابرين أن تتسجّل في الجامعة، إذ لم يكن من الممكن إحضار شهادة البكالوريا من سوريا وتصديقها في السفارة في لبنان، ومن ثمّ معادلتها في وزارة التربية اللبنانية في يومٍ واحد.

على الرغم من كلّ ذلك، سعت صابرين للبحث عن منحة لإكمال تعليمها في لبنان. فتّشت في كلّ مكان إلى أن وجدت فرصة في إحدى المؤسسات التعليمية قبل يومين فقط على الموعد النهائي لاستقبال الطلبات. أرسلت ملفها من دون أن تتوقّع أن يتم قبوله، لكن، وبعد فترةٍ وجيزة، تواصلت الجهة المانحة معها لإبلاغها بقبول طلبها ولترسل إليهم الأوراق اللازمة لاستكمال الملف وللتسجيل في الجامعة.
كانت تلك اللحظة من أجمل لحظات حياتها، لكنّ فرحها تبدّد سريعاً. لم تستطع صابرين أن تتسجّل في الجامعة، إذ لم يكن من الممكن إحضار شهادة البكالوريا من سوريا وتصديقها في السفارة في لبنان، ومن ثمّ معادلتها في وزارة التربية اللبنانية في يومٍ واحد. إضافةً إلى ذلك، لم تكن تملك المال الكافي للذهاب إلى بيروت والدخول في دوامة التصديق والمعاملات وكلفتها.
في هذه الأثناء، استطاع شقيقها صابر الحصول على منحة لاستكمال تعليمه الجامعي. دخل المنزل يومها ليجد الأسرة مجتمعة، فأعلن خبره قائلاً: “بدي خبركن أني انقبلت بالمنحة، ورحت سجّلت بالجامعة اختصاص التمريض”. كان صابر سعيداً جدّاً فقد نجح في تحقيق الحلم الذي راوده منذ حصوله على الشهادة الثانوية. نظرت صابرين إلى والدها لترى السعادة قد انتقلت إليه أيضاً.
كانت تلك المرّة الأولى التي تراه فيها فرحاً منذ وصولهم إلى لبنان.
ما زالت صابرين تشعر بالحزن في كلّ مرّة ترى فيها الطلاب ذاهبين إلى جامعاتهم. عندما رأت بعض أصدقائها في المخيم يحتفلون بتخرّجهم، رغم أنّهم يصغرونها بعامٍ أو عامين، أحسّت بالإحباط وكرهت حياتها. تعرف أنّ بعضهم اليوم بلا عمل، والبعض الآخر يعمل في مهنٍ مختلفة عن تخصّصاتهم، لكنها أرادت فقط أن تتابع تعليمها، ولو اضطرّت في النهاية لتعليق شهادتها صورةً على الحائط.

الفصل الخامس

اعتادت صابرين أن تكتب يومياتها بالإضافة إلى بعض النصوص الأدبيّة من وقت إلى آخر. في أحد الأيام، قرأ زميلٌ متطوّع مثلها في إحدى الجمعيات كتاباتها، ليخرج بعدها ويخبر الموظّفين الآخرين بأنّ هذه الشابة تمتلك موهبة الكتابة. بعد فترة قصيرة، هاتفها الشاب نفسه ليخبرها بوجود فرص عملٍ في مجلة “قلم رصاص” المختصّة بمتابعة أوضاع مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
تحمّست صابرين وتقدّمت للعمل معهم، وتم قبولها سريعاً. في البداية واجهت صعوبةً كبيرة في تنفيذ المطلوب منها، فهي معتادةٌ على الكتابة الأدبية الإبداعية، لا الكتابة الصحفية المهتمة بإيصال المعلومة. لكن، وخلال سنتين، تطوّرت خبرتها في العمل الصحفي وصارت متمكنة من كتابة المقالات والتحقيقات والتقارير. وساعدها ذلك لاحقاً على الانضمام إلى موقع “شبابيك” الإخباري، الذي كان يضمّ مراسلين من مختلف المخيمات الفلسطينية.
لاحقاً في العام 2018، أعلنت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت عن دورة للكتابة الإبداعية مع الروائي اللبناني إلياس خوري. تردّدت صابرين في إرسال طلبٍ للمشاركة في البداية. بدا لها أنّ مستواها قد لا يؤهلها للمشاركة في تجربةٍ مع كتّاب محترفين، لكنّها في النهاية تشجّعت وأرسلت طلبها، لتتفاجأ لاحقاً بقبولها، ممّا كان مصدراً لبهجةٍ وسعادةٍ كبيرين.
خلال الدورة تعلمت الكثير عن الكتابة الإبداعية وطوّرت أسلوبها وأدواتها. أما الإنجاز الآخر، فكان اكتسابها المزيد من الحريّة ونموّ شخصيّتها بعد أن تحدّت موقف أهلها الرافض في البداية لبقاء ابنتهم خارج المنزل بعد غروب الشمس، وفوق ذلك في بيروت. في نهاية الدورة، أتمّت صابرين كتابة نصٍ نشر مع نصوص بقيّة المشاركين في كتابٍ حمل عنوان “حبّ في المخيم”.
كانت الشابة سعيدةً للغاية وبكت كثيراً. كانت المشاركة في هذه التجربة مصدر فخرٍ وسعادةٍ كبيرين لها، لكنّ حلمها بالحصول على شهادةٍ جامعيةٍ ظلّ يؤرّقها، إذ سيمنحها ذلك مزيداً من الفرص ومزيداً من الاحترام في بلدٍ لا يعامَل فيه الفلسطينيون كما يحق لهم أن يعاملوا.
واجهت صابرين انغلاق الأفق وقلّة الفرص في كلّ مكان، لكنّها مع ذلك لم تفكّر في الهجرة، فهي في النهاية ابنة المخيم وفخورةٌ بهويتها الفلسطينية. لكنّ إصابة شقيقها صابر بالسرطان ومعاناته مع المرضn كانت ضربةً قاسيةً بدّلت قرارها بالبقاء.
قبل فصلين فقط على إتمامه لدراسته وتخرّجه من الجامعة، اكتشف صابر إصابته بسرطان القولون. قامت الأسرة بكلّ ما يمكنها لمساعدتها، انتقلوا من طبيبٍ إلى آخر ومن مستشفى لآخر، حتّى تمكّنوا من إجراء عملية لاستئصال الكتلة السرطانية. مع ذلك، لم يشفَ صابر، إذ كان المرض قد انتشر في جسده. حاول والد صابرين أن يؤمّن لابنه العلاج في الخارج، لكنّه فشل، فهو فلسطيني، ومن الصعب أن يحصل على أيّ تأشيرة سفر. هكذا، توفيّ صابر بعد شهرٍ واحدٍ فقط على اكتشافه للمرض، تاركاً أسرته غارقةً في أسىً عميق.
إثر ذلك، خيّم الحزن على البيت، واعتادت صابرين في الأشهر الثلاثة التالية أن تستيقظ على بكاء والدها. لأوّل مرةٍ في حياتها، أحسّت صابرين بالحاجة للجوء إلى دولةٍ أخرى والحصول على جنسيتها، لا لشيءٍ سوى لتضمن الحصول وعائلتها على حقوقٍ أساسيةٍ تضمن ألّا تتكرّر مأساة صابر مرّة أخرى.
اليوم، وبعد مرور قرابةٍ عامٍ على وفاة شقيقها، صارت صابرين أكثر إصراراً على السفر وعلى كتابة روايتها الأولى، وكذلك على إكمال تعليمها، علّها تحقّق حلمها وحلم صابر المعلّقين.

محمود، فلسطيني ترك سوريا في العام 2013، وانتقل إلى لبنان ليتابع تعليمه في علوم الكمبيوتر، لكنه وبسبب الظروف السياسية والاقتصادية في المخيمات الفلسطينية، انتهى به الحال عاملاً في متجر للهواتف..
حين يكبر عماد، ابن المخيّم، ستمنعه القوانين من ممارسة العديد من المهن، مهما علت درجة تحصيله العملي..

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

كتابة: أنس علي
القصة المصورة: رنا موسى
تصوير ومونتاج: هبة ياسين
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: صباح جلول
إشراف: إبراهيم شرارة

منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.

محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد

اتصل/ي بنا

او تواصل/ي معنا عبر البريد الالكتروني

انضم/ي إلينا

تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.

القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.