حب وعمل وحياة عادية: الأحلام الصغيرة لشابٍ كفيف

سلسلة من الحوادث تلاحق محمد، من المدرسة الداخلية وعقاب الاستاذ المشرف إلى قصص الحب والتنّمر والعمل..

مهدي ديراني

حب وعمل وحياة عادية: الأحلام الصغيرة لشابٍ كفيف

سلسلة من الحوادث تلاحق محمد، من المدرسة الداخلية وعقاب الاستاذ المشرف إلى قصص الحب والتنّمر والعمل..

مهدي ديراني

الفصل الأوّل:

عقاب الأستاذ المشرف

أجبر الأستاذ المشرف محمداً وصديقه على الدخول إلى إحدى الغرف المنفصلة. شغّل فيلماً عن الموت، ورفع الصوت عالياً، ثم أطفأ النور قبل أن يخرج ويغلق الباب، مخلّفاً وراءه الولدين وحيدين في العتمة.
طوال ساعة عرض الفيلم عاش الولدان لحظاتٍ من الرعب لم يعهداها من قبل. 
زاد في خوفهما صوت الرعد وحبّات البرد التي كانت تطرق نافذة الغرفة في تلك الليلة الشتائية الباردة.
عشرون عاماً مرّت على تلك الليلة، لكنّ رعبها ما زال مطبوعاً في مخيّلة محمد حتّى اليوم.
تعمّد المشرف في مدرستهما الداخلية اختيار فيلمٍ مرعب، كان الغرض من عرضه عقاب الطفلين، لا التسلية. لم ينم محمد بعد عودته إلى سريره يومها. كيف ينام وشبح الموت يحوم من حوله؟
– “لو أبرحت حينها بالضرب لكان الوضع أفضل بالنسبة لي. لا يوجد قوة في العالم تستطيع أن تنسيني هذا العقاب”.
اليوم، بعد أكثر من عشرين عاماً، ما زال هذا الشبح يتراءى لمحمد وما زالت ذكرى هذه الحادثة المؤلمة تطرد النعاس من عينيه وتؤرقه.
دخل محمد إلى المدرسة الداخلية، التابعة لمؤسسة الهادي للإعاقة البصرية والسمعية، في العام 1993. اضطر لترك قريته كفركلا والانتقال إلى بيروت بعد أن عجزت عائلته عن إيجاد مدرسة رسمية قادرة على رعايته في منطقة النبطية. قضى بعدها ثمانية عشر سنة بعيداً عن أهله، مكتفياً بلقائهم يومين فقط كلّ أسبوعين.

طوال ساعة عرض الفيلم عاش الولدان لحظاتٍ من الرعب لم يعهداها من قبل. زاد في خوفهما صوت الرعد وحبّات البرد التي كانت تطرق نافذة الغرفة في تلك الليلة الشتائية الباردة

Share on facebook
Share on twitter

ثمانية عشر عاماً قضاها تحت سلطة المشرفين والأساتذة، في ظل نظام يُمنع فيه على الطالب أن يعترض أو أن يقول “لا”. كان عليه الاستيقاظ عند الساعة السادسة من صباح كل يوم. يتوجّه بعدها إلى المطبخ لتناول الفطور، حيث يكتفي بطبقٍ واحد، لا يحق له أن يأكل غيره، مهما طلب أو توسل للمشرفين.
ثمّ يمضي إلى الملعب، حيث يجتمع الأساتذة فيما الطلاب يلعبون ويلهون بانتظار قرع الجرس الذي يعلن بداية يومهم الدراسي.
بعد الغداء يجتمع مع رفاقه في غرفة الجلوس، يدرس وينجز فروضه المدرسية. كان هذا الوقت خاضعاً للنظام أيضاً، فإذا أراد دخول الحمام أو شرب الماء عليه أن يطلب إذناً من المشرف، وإلّا سيأتي العقاب لا محالة. أثّرت هذه القوانين الصارمة على حالة محمّد النفسية وانعكست مزيجاً من التعب والإرهاق يرافقه طوال اليوم.
في السابعة مساءً كان يمضي وأصدقاءَه إلى صالة الطعام لتناول العشاء الذي لا يزيد عن حصّة واحدةٍ لكلّ واحدٍ فيهم. يقول محمد إن المشرفين الكبار ربما لم يكونوا على علم بكلّ ما كان يُفرض على التلامذة، لكن ذلك لم يخفف من تعبه وحنقه، بل أن هذه القواعد الجائرة ستجعله لاحقاً يتّخذ قراراً سيغيّر مجرى حياته.
بعد العشاء كان يسمح للتلامذة بالخروج حتّى الساعة التاسعة فقط، ليعودوا بعدها إلى النوم. لكن محمداً لم يكن من التلامذة الذين يلتزمون بالوقت، فكان يهرب خلسة ليخرج مع أصدقائه للتنزه في الضواحي القريبة. وعند عودته بعد منتصف الليل، كان ينجح في التسلّل خلسةً أحياناً، ويضطر في أحيانٍ أخرى لأن يتشاجر مع الحارس ليسمح له بالدخول.
كان يرتمي على سريره الحديدي، الأشبه بأسرّة السجن، فور دخوله إلى الغرفة. يضع السماعات في أذنيه، ويشغّل أغنياته المفضّلة لينسى ما مرّ به من أحزانٍ وآلام.

على امتداد ثمانية عشر عاماً تكرّرت أيام محمد وتشابهت في الرتابة والملل، وزادت شدّة المشرفين وصرامتهم في كآبتها. كره المدرسة الداخلية والحياة فيها. وذات يوم، بينما كان منزوياً في سريره يسمع أحاديث زملاءه في الغرفة، ويفكّر في حياته، عرف فجأة، في لحظة واحدة، ما الذي يتوجّب عليه فعله.
حزم أغراضه بسرعة وحمل الـ”لابتوب” العزيز على قلبه. وخرج من الغرفة متوجهاً إلى مكتب رئيس الدمج. أبلغه بأنّه لا يريد البقاء في المدرسة الداخلية، بل يريد العودة إلى الجنوب ليدخل مدرسة رسمية يختلط فيها مع أناس جدد. حاول مسؤول الدمج ثني محمدٍ عن قراره وإقناعه بالبقاء، لكنّه كان شديد التصميم.
اتخذ محمد قراراً لا رجعة فيه.
خرج من المكتب، وبعدها من بوابة المدرسة، من دون أن يرف له جفن. عبر الشارع، فيما كانت فرحة عارمة تجتاح قلبه ونفسه. اجتاز الطريق ولم يلتفت إلى الوراء. استقلّ الباص وتوجّه إلى عائلته في الجنوب، التي لم تكن على علم بقراره. عند وصوله ظنّوه آتياً لقضاء عطلته نصف الشهرية كالمعتاد، لكنّه فاجأهم بقوله: 
– “إنسوا بيروت، إنسوا المدرسة الداخلية”.
تفهّمت العائلة قراره ولم تعارضه، لينفتح الباب أمام محمد لخوض تجربةٍ جديدة في مهنية النبطية الرسميّة، لكنّ هذه التجربة لن تكون على قدر أحلامه، كما ستكشف له الأيّام.

الفصل الثاني:

حب وتنمّر

الآن، لا يتذكر محمد أيامه الأوّلى في المهنيّة إلّا بوصفها أياماً مشؤومة. ما إن عبر البوابة إلى ملعب المهنيّة، ذات يوم، حتّى ارتفعت أصوات التلامذة وضجّوا بالضحك. حاول محمد عبثاً أن يعرف السبب، لكنّه لم يدركه إلّا عند عودته إلى المنزل، حيث اكتشف أنه ارتدى فردتي حذائين مختلفين وبالمقلوب.
في ذلك الصباح، بينما كان يقف في الملعب وحيداً، محاطاً بأصوات القهقهة والضحك، امتلأ قلبه بالأسى واجتاحته رغبةٌ بالبكاء.
قبل ذلك، كان عليه أن يعتاد على صعوبة الحركة، إذ لا يوجد رصيف مهيّأ لمن هم في حالته، ولا وجود لإشارات مرور تسهّل اجتيازه للطريق. إن مرَّ أحدهم ساعده، وإن لم يمرّ أحد، يكون عليه أن يكتفي بعصاه لحلّ مشكلته وتلمّس طريقه. وكما في النبطية، حيث المهنية التي يدرس فيها، كذلك في قريته “دوير”، التي انتقل إليها من كفركلا، حيث عصاه هي وسيلته الوحيدة التي تعينه على الحركة والتنقل.
مع دخوله الصف، اكتشف محمد أنّه سيعاني في محيطٍ كهذا، إذ لا تتوفّر في المبنى أيّ تجهيزات خاصة بالمكفوفين، من شأنها مساعدتهم في الانتقال بين الطوابق أو داخل الصف نفسه.
زاد تنمّر الطلاب وسخريتهم المتكررة من تعاسة محمد، كما زادت فيها معاملته على أنّه حالة خاصة. لو أنّ المبنى كان مجهّزاً لما أحسّ بذلك، ولنال الاستقلالية التي يرغب بها.

رغم ذلك، ظلّ محمد مصمّماً على الاستمرار في الدراسة، واتّخذ قراراً بألّا يسمح لشيء بأن يمنعه من تحقيق هدفه.
في الأيام التي تلت، تعرّف محمد على ميرنا، التي كانت تدرس وشقيقتها الاختصاص نفسه الذي يدرسه هو، الإدارة والتسويق، وكانت تسكن بالقرب من منزله في الدوير.
صارت ميرنا تساعده كلّما احتاج شيئاً في الصف، وتكفّلت بأن تخبر الأساتذة بحالته، وبأن تشرح لهم أنّه قادر على كتابة الشرح على حاسوبه، ويستطيع أن يدرس وحده من دون مساعدة.
لم تكن ميرنا وأختها صديقتيه الوحيدتين. إذ تعرّف على دنيا التي مازحته في لقائهما الأول، بينما كان يكتب الدرس على حاسوبه. ومن خلالها تعرّف على سميرة وسحر. هكذا صار يقضي مع صديقاته معظم أوقاته. كانت سنينَ لا تُنسى. يمرحون، ويتضاحكون، يتشاجرون ثم يتصالحون، وفي حال وقع أحدهم في مشكلة، يتعاون الجميع على حلها.
لكنه، من جهة أخرى، ظل يشعر بنقص لا يعوّض. سيحرمه المنهاج غير المحدّث، والذي لا يراعي المكفوفين، من متابعة بعض المواد مثل الرياضيات والمالية، خاصة لانعدام أيّ وسائل تسهل عليه تعلّمها.
وكما كان يتعرّض للتنمّر من بعض الطلاب، سيتعرّض أيضاً لنظرةٍ تمييزيّةٍ من بعض الأساتذة. حتّى أنّ معلمة قالت له، في إحدى المرات، من دون تردد، إنها غير مسؤولة إن لم يستطع مجاراتها بكتابة الشرح على حاسوبه، فهي معتادة على أن تشرح بسرعة!

لا يوجد رصيف مهيّأ لمن هم في حالته، ولا وجود لإشارات مرور تسهّل اجتيازه للطريق. إن مرَّ أحدهم ساعده، وإن لم يمرّ أحد، يكون عليه أن يكتفي بعصاه لحلّ مشكلته وتلمّس طريقه..

Share on facebook
Share on twitter

كان يُجري بعض الإمتحانات شفهياً والبعض الآخر على الحاسوب. هذه الأساليب في الامتحان كانت موضع نقد عند رفاقه في الصف، ولطالما تناهت إلى مسامعه عبارات مثل “سيتعاطفون معه كالعادة، امتحان شفهي..”، أو “علامته عشرين لأنّ الأساتذة يتساهلون معه على عكسنا، فهو غير قادر على نيل هذه العلامة..”. مع ذلك لم تؤثّر به هذه التعليقات، فهو كان دائم اليقين بأنّه يستحق علاماته لما يبذله من جُهد، لا بسبب عطف من الأساتذة.. وفي النهاية، نجح محمد في التحدّي وحصل على شهادة في الإدارة والتسويق.
بعد تخرّجه، عزم محمّد على الزواج وإيجاد عمل، لكن الأمور لم تسر كما يشتهي. انتهى حبّه الأوّل الذي دام سبعة أعوام في المدرسة الداخلية، ليجد محمد نفسه في مواجهة مجتمعٍ لا يعترف بعواطفه ومشاعره. كلّما تقرّب من فتاة أعجبته، يواجهه أهلها بسؤال “ليش عيونك هيك؟”. لم يكونوا يسألون عن أصله أو فصله، ولا عمّا يملكه أو ما يعمله.
كثيراً ما جرحه ذلك، فهو كاملٌ بنظر نفسه، ونظرة المجتمع له هي الناقصة، فهو فاقد للبصر لا للبصيرة. يظنّ الناس، بحسب محمّد، أنّه يبحث عن زوجة لتهتم به وتساعده على إنجاز أموره الشخصية كالاستحمام وما إلى ذلك، من دون أن يعرفوا أنّه قادر على القيام بكلّ هذه الأمور لوحده بشكل طبيعي.هذا الوصم الاجتماعي كان هو السبب وراء انفصاله عن خطيبته بعد أقلّ من ثمانية أشهر على خطبتهما، كما لو أنّ القدر كتب له أن تكون كلّ أيّامه شؤماً. كانت خطيبته أكبر منه سنّاً ومخلصة له، كما كان هو معها، لكنّها تعرّضت لانتقادات عديدة.
– “حرام عليكِ أن تفعلي ذلك بنفسك… حرام! ما زلتِ في مقتبل العمر، لماذا تتزوجين بشخصٍ مثله؟”، يقول لها الناس.
أوقعت كثرة الانتقادات هذه الخلاف بينهما، وقادت لإنهاء العلاقة. مع ذلك، لا يخشى محمد اليوم خوضَ علاقةٍ عاطفيةٍ جديدةٍ، حتى وإن كانت شريكته كفيفة مثله.
بعد الانفصال، لجأ إلى الكلارينت لتعوّضه عما فقده، أراد أن يعبّر من خلالها عن الحزن الذي رافقه طوال سني حياته. في الماضي، عندما كان في الخامسة تعلّم العزف على الأورغ لملء أوقات فراغه، ولاحقاً، تعلّم العزف على الكلارينت ليداوي بها قلبه.
وبين ماضيه وحاضره، ظلّت فكرة إمكانية استعادة بصره هاجساً مخبوءاً، ولكن حاضراً بقوة. فمحمّد كان قد خضع لعمليات جراحية عدة، لم يسر أيّ منها كما أراد.

الفصل الثالث:

رحلة الضوء والعتمة

في 12 تموز 2005، تغيّرت حياة محمّد ابن الخمسة عشر عاماً آنذاك. في ساعات الليل المتأخرة، شعر بألمٍ حادٍ في جبهته من ناحية العصب البصري. صار رأسه بارداً من شدة الألم، وانتظر قرابة ساعتين بلا جدوى، إذ كان الوجع يتفاقم.
مع طلوع الصباح، توجه ووالدته إلى طبيبٍ متخصّصٍ في منطقة النبطية. بعد أن أجرى له الفحص اللازم، تبيّن أن عينيه بحاجة إلى عملية طارئة لإنقاذهما. في البدء، لم يأخذ محمد الأمر على محمل الجدّ.
بدأت مشكلة النظر عند محمد بعد وقت قصير على ولادته. في عمر السنتين اكتشف الأطباء أن المياه الزرقاء قد تجمعت حول العصب البصري. منذ ذلك الوقت عاش محمّد كفيفاً، وأجرى في السنوات اللاحقة عمليات عديدة في محاولةٍ لاستعادة بصره كانت أهمها في روسيا. فقد حصل يومها على قرنيتين من متبرّع على أمل أن تخلّصاه من الظلمة التي رافقته دوماً. استغرقت العمليّة ساعاتٍ طويلة، خرج في نهايتها محمد بخيرٍ إلى غرفته.
كان الطقس بارداً وكانت الثلوج تتساقط في الخارج. دخل الطبيب ونزع العصبة عن عينيه. ولأوّل مرّة في حياته رأى محمّد نفسه في المرآة. لم يستطع أن يسيطر على فرحته، حين أدرك كيف تبدو هيئة الإنسان، عيناه، أنفه، يداه، قدماه…
لكنّ سعادته لم تدم طويلاً.
فقد عاد الظلام ليطبق على عينيه فجأة. لقد أبصر لساعتَين فقط، استطاع أن يدرك خلالها أربعة ألوان فحسب. الثلج الأبيض، والسماء الزرقاء، والأشجار الخضراء، أما اللون الرابع فكان الأسود، ذاك اللون الذي عاود تحطيم حلمه سريعاً.

دخل الطبيب ونزع العصبة عن عينيه. ولأوّل مرّة في حياته رأى محمّد نفسه في المرآة. لم يستطع أن يسيطر على فرحته، حين أدرك كيف تبدو هيئة الإنسان..

Share on facebook
Share on twitter

كانت العملية الجديدة بمثابة الأمل له. عندما سمع طبيب النبطية يقول إنَّ عملية طارئة يجب أن تجرى له، ظنّ أنّها مجرد عملية لسحب للمياه الزرقاء، وسيستعيد بعدها بصره.
عند الساعة السابعة من صباح اليوم التالي توجّه إلى المستشفى في مدينة النبطية. دخل غرفة الاستقبال، وضعت له الممرضة بطاقة التعريف ثم توجّه إلى غرفة العمليات. في انتظار إبرة التخدير، عاش محمد حالة من التوتر والذعر، وبدأت يداه بالارتجاف. طلب دخول المرحاض ليهدّأ نفسه. كان ينتظر معجزة تعيد إليه بصره، فأخذ يدعو ربه حيناً ويقلب رأسه يميناً ويساراً حيناً آخر. بقي في الحمام لمدة خمس دقائق فكّر خلالها بمصيره، بالمستقبل المجهول وبحالته النفسية بعد العملية.
طرق الممرض الباب وسأله إن كان بحاجة لمساعدة. لم يجب محمد. أعاد الممرض الكَرّة لكن من دون جدوى. وفي المرة الثالثة خرج محمد وسار مسلّماً أمره.
نُقل إلى غرفة العمليات، وجلس على السرير. بعد تخديره بدأت العمليّة، لكنّه رغم ذلك شعر بالألم. ألمٌ قويٌ لا يمكن أن ينساه.
أمضى في العملية ساعتين ونصف، نقل بعدها إلى غرفة العناية حيث خضع للمراقبة مدّة ساعتين. بعد ذلك فقط، نقل إلى غرفةٍ عادية. هناك استيقظ محمّد معصوب العينين. لم يستطع أن يخبر أحداً بما كان يشعر به، حتى والدته التي لم تفارقه لحظة واحدة لم يستطع أن يشاركها المشاعر التي تختلج في قلبه. أثار مجيء الممرّضة كلّ عشر دقائق للكشف عليه فضوله لمعرفة ما حصل خلال العملية، وشعور آخر يهدئ من روعه. لكن قبيل النوم، بدأ يدرك أنّ أمراً جللاً قد وقع. زال مفعول المخدر، ليشعر بنوبة صداع قوية كادت أن تفقده وعيه. طلب من عائلته الخروج من الغرفة والذهاب إلى المنزل كي يبقى وحيداً. استمرت آلامه طوال ساعات الفجر الأولى. قضى الليلة بأكملها وحيداً وحزيناً وخائفاً. لم يكن يملك أدنى فكرة عمّا حدث خلال العملية، لأنّ كلّ من كانوا حوله بدوا خائفين ومتردّدين في الحديث عمّا جرى.
عند الساعة التاسعة صباحاً دخل الطبيب إلى الغرفة. نظر إلى والدة محمد، وأخبرها أنّه لا يقوى على إخباره خوفاً على مشاعره. وضع محمد يديه على العصبة الملفوفة على عينيه. وقال للطبيب:
– “لقد علمتُ بما حصل خلال العملية”.
لم يكن يعلم شيئاً في الحقيقة، لكنه قال جملته للإيقاع بهم. أراد أن يحثهم على إخباره عمّا حدث. اقترب الطبيب منه، وبدأ بإزالة العصبة عن عينيه. ظلّ محمد هادئاً، لكنّه كان يصرخ في داخله.
– “والآن دكتور، ما الذي حصل؟”.
– “لقد خسرت عينيك”.
– “أخبرني بما حدث بالتفصيل”.
– “سحبنا ثلاث حقن ماء من رأسك، من وراء العصب البصري. لكننا لم نستطع إنقاذ عينيك. كانتا مشققتين جراء العمليات الكثيرة. فاضطررنا لاستئصالهما..”.

ستتردّد هذه الجملة في رأسه مراراً وتكراراً.. لم يلم الطبيب على ذلك، فقد قام بواجبه، لكنّه في تلك اللحظة كان لديه مطلب واحد فقط، الخروج من المستشفى والعودة إلى المنزل.
في اليوم التالي، سمح الطبيب بإخراجه شرط أن يأتي لمعاينة الجرح بانتظام.
بعد هذه العملية صار محمّد أمام واقعٍ جديد: صار كفيفاً.. ومن دون عينين. وبعد شهر ونصف من استئصال عينيه، اقترض مبلغاً من المال على الرغم من الضائقة الاقتصادية التي يعيشها أهله. اشترى بالمبلغ عينين من زجاج ليضعهما مكان اللتين فقدهما. لكن، وبعد أسبوع واحدٍ فقط، وقعتا على الأرض وانكسرتا. لم يعد باستطاعته شراء مجسم جديد، فهو كان لا يزال يسدّد المبلغ الذي اقترضه. بالتالي، صار مفروضاً عليه أن يكمل حياته من دون عينين زجاجيتين.
لا يزال طيف هذه السلسلة من الحوادث السيّئة يلاحق محمّداً حتّى اليوم. كلّما أراد النوم عاودته ذكريات العقاب في المدرسة الداخلية وآلام العملية التي انتهت باستئصال عينيه.

الفصل الرابع:

حلم سنوات الشباب

أمضى محمد ما يقارب الأربعة أعوام بعد التخرّج في البحث عن فرصة عمل من دون جدوى. دفعه إحباط السنوات الأربعة هذه للتفكير بالهجرة. أراد أن ينتقل من لبنان إلى بلد يعي حقوقه ويحترمه كإنسان.
قدم محمد خلال هذه الفترة طلبات توظيف إلى عددٍ كبير من المؤسّسات، معظمها لم تفتح أبوابها في وجهه من الأساس. كان مثله مثل أيّ شابٍ يطمح للاستقرار، ويحلم بالحصول على وظيفة تتيح له أن يفتح بيتاً ويؤسّس عائلة.
كان يريد وظيفة تليق بقدراته ومهاراته التي ظنّ أنها تكفي لينال حقه في الحصول على عمل. ولمّا يئس من ذلك، صار يبحث عن “واسطة”، فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى مكاتب الأحزاب وبيوت الزعامات، لكنّه لم يحصل على نتيجة.
في إحدى المرّات، ذهب للقاء مسؤول حزبي في المنطقة. أخبر السكرتير بطلبه، فدخل السكرتير إلى مكتب المسؤول، ومن الداخل، سمع محمد صوت المسؤول يهمس للموظف:
– “قل له بأنني لست موجوداً”.
لم ينتظر محمد عودة الرجل، غادر المكتب سريعاً، مكسور الخاطر، لأنّ مبصراً تعمّد استغبائه والاستخفاف بحالته. صحيحٌ أنه لا يبصر، لكنّه كان قادراً على سماع كذبه.انهماكه في التفكير والبحث عن وظيفة سبّبا له الكثير من المتاعب النفسيّة والصحيّة. وبعد فترة أصيب بالسكّري، ليتضاعف حزنه ويصير على حافة اليأس.
لكن، وعن طريق الصدفة، عاد له بصيص الأمل في محلٍ للهواتف دخله عشوائياً لشحن خطه. هناك، سأله أحد الأشخاص عن كيفية تأمينه لمصروفه، فأخبره محمد بقصّته وبأنّه قد صار في السابعة والعشرين من عمره، وما زال مضطراً لأخذ مصروفٍ من أهله. عندها، اقترح الرجل الذهاب لزوجة رئيس مجلس النواب اللبناني، رندة بري، علّها تساعده بالحصول على وظيفة في مؤسّسة تحتاج شخصاً بمؤهلاته”.

لم يتردد محمّد بالتوجه إلى مكتبها. استعاد أمله بالحصول على وظيفة. كان قد استنزف قبل ذلك كل محاولات نيل فرصة عمل بشكل عادي، كغيره من الناس. لكنّ المجتمع ومن خلفه الدولة، لم يؤمّنا له ولأمثاله ما يساعدهم على تحقيق أهدافهم في ظروفٍ عادلة، فكانَ أن لجأ إلى بدائل أسرعَ وأنجعَ!
استقبلته برّي بالترحاب، وكانت بالنسبة له الوحيدة التي ساعدته في الحصول على أبسط حقٍّ من حقوقه، أي العمل.
بعد مرور أسبوع على زيارته، رنّ هاتفه. فتح الخط، فجاءه الصوت من الطرف الآخر:
– “آلو؟ محمد، من أول يوم شغل لإلك ومأخر؟”.
كان هذا مديره الجديد الذي اتّصل به ليبلغه حصوله على وظيفة عامل هاتف.
في يومه الأوّل اجتاحت فرحةٌ عارمةٌ قلبه. نزل من البيت باكراً، قطع الشارع بسرعةٍ وأوقف سيارة أجرة. مع اقتراب وصوله إلى المؤسّسة، أحسّ محمد بالتوتر والخوف فصار يردّد آيات قرآنية علّها تعيد الهدوء إليه. لكن، وبمجرد وصوله، عرف أنّه لم يكن مِن داعٍ لقلقه، فقد استقبله زملاؤه أحسن استقبال، كما لو أنّهم يعرفونه منذ زمنٍ بعيد.
أخيراً، جلس على مكتبه، تحسّس بيديه الآلات والأغراض الموجودة عليه، وصار يسأل زميلته في المكتب المجاور عن كلّ ما لم يعرفه: “هذا الفاكس، وهنا الهاتف، الرقم 1 يحوّل إلى المدير، والرقم 2 يحوّلك إلى مكتب المحاسبة..”.
بعد ذلك، دعاه زملاؤه الجدد لتناول الفطور رفقتهم. شاركهم الطعام وتبادل معهم أطراف الحديث. تعرّف عليهم وعرّفهم بنفسه. هكذا، غمره الإحساس بالألفة سريعاً.
مع مرور الوقت، أحبّ محمد وظيفته أكثر. لم يكن عمله بالنسبة له محصوراً بالقيام بالاتصالات أو تلقيها. أتيح له من خلال العمل الاحتكاك بالناس والتعرف على مشاكلهم ومعاناتهم. عدا عن ذلك، برع محمد في إنجاز مهمّاته، ولقّبه الناس باسم “أوجيرو رقم 2” لقدرته على حفظ الأرقام عن غيب وجدولتها.
حقّق محمد حلمه بأن يحصل على وظيفة، ليبقى حلمه الثاني معلّقاً رهنَ تغيّر نظرة المجتمع وتقبّله له.

كتابة: مهدي ديراني
رسم: آلاء كركي، فاطمة فنيش
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: روان المقداد
إشراف: إبرهيم شرارة

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.

محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد

اتصل/ي بنا

او تواصل/ي معنا عبر البريد الالكتروني

انضم/ي إلينا

تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.

القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.