خلال الولادة تعذبت كثيراً، شعرت بألمٍ غير مألوف، أكبر من قدرتي على تحمّله، جسدياً ونفسياً. كنت صغيرةً على تجربةٍ كهذه.. وعندما وضعوا الرضيع بين يديّ نظرت باستغراب، كما لو أنّني أحمل لعبةً ما.
جويل عبد العال
يحظى الشاب “القبضاي” عادةً بشهرةٍ واسعةٍ في القرى، وفي أعين الكثيرين من سكّان ضيعتنا في البقاع الشمالي كان خالد هو هذا الشاب “القبضاي”. على الأقل هذا ما اعتقدته معجباته الكثيرات، وأنا كنت منهن. ربّما لأنّنا في المراهقة نحلم بهذا “البطل”، الذي سيحمينا، ويهتم بنّا، الغيور الذي لن يسمح لأحد بأن يؤذينا ولو بنظرة. كنت أغرق في أحلام الأميرات هذه كلّ مرّة أراه فيها. لم نتبادل الحديث يوماً، لكنّ دقّات قلبي كانت تتسارع كلّما جمعتنا الصدفة.
كنت في عامي الأوّل في المعهد حين تحادثنا لأوّل مرّة.
كنت قد قرّرت بعد تحصيلي شهادة البريفيه، أن أترك الثانوية لدراسة المحاسبة. في يومٍ من أيّام شهر أيلول المبلول في العام 2006، وبينما كنتُ أقف وحيدةً تحت المطر المنهمر بغزارة منتظِرة مرور باصٍ أستقلّه إلى المنزل، مرّ خالد بالفان الذي ينقل فيه الطلّاب إلى المدارس. فور توقّفه، ركضت إليه وطرقت على الشبّاك لينزله. استأذنته بالصعود، فلم يرفض. مسح لي المقعد الخلفيّ قبل أن أجلس، بدا كما لو أنّه أراد أن يلفت نظري بهذه الحركة المهذّبة.
أوصل بقية الطلّاب قبلي، على الرغم من أن بيتي كان أقرب من بيوتهم. بقيت وحدي معه، فطلب منّي الجلوس في المقعد الأمامي إلى جانبه. لم أوافق في البداية لكنّ إلحاحه دفعني للقبول. على الطريق، سألني عن اسمي وعمري وعن الاختصاص الذي أدرسه في المعهد. أجبت بأنّ اسمي ريم، وأنّ عمري خمسة عشر عاماً، وأنّني أدرس المحاسبة. بعد ذلك سألني إن كنت أودّ أن أشترك في خدمته لنقل الطلّاب. فرحت جدّاً بذلك، لكنّني أبلغته بأنّ عليّ سؤال أمّي، وسألته إن كان سيتواجد في دكان عائلته يوم الأحد لأمرّ وأبلغه بقرار أهلي، فهزّ رأسه بالإيجاب. قبل أن أنزل، تبادلنا التحايا والابتسامات.
هرعت مسرعةً إلى أمّي لأسألها، فوافقت دون اعتراض.
بعد أسبوع من لقائنا الأوّل، وبعد أن بقينا وحدنا في الفان، أخبرني خالد بأنّه معجب بي كثيراً. هو لم يكن قد تجاوز التاسعة عشر من عمره آنذاك، لكنّه ملأ عليّ حياتي، وعوضني عن الكثير من النقص الذي أشعر به.
لم أستعجل في حياتي كما استعجلت مجيء صباح الأحد. استيقظت باكراً في ذلك اليوم. سرّحت شعري ورفعته قليلا عن وجهي، حاولت أن أبدو أكثر جمالاً، ومن ثمّ أسرعت إلى دكان أهل خالد. فرحت جدّاً حين وجدته واقفاً أمام باب المحل، وتمنيت أن يكون سبب وقوفِه انتظارَه لمجيئي. ألقيت التحيّة ودخلت إلى الدكّان لأشتري بعض الأغراض. عندما خرجت، توجّهت إليه:
– ابتداءً من يوم غد سوف أذهب وأعود معك.
لا أذكر شيئاً بعد ذلك سوى نظرات الفرح في عينيه. بدت عيناه مشتعلتين حماساً، كحال عينيّ.
استيقظت باكراً صباح يوم الاثنين أنتظر بحماس أن يمرّ ليصحبني. عندما وصل، ركضت مسرعةً إلى الباص. ذهبت لأجلس في المقعد الخلفيّ، لكنّه دعاني إلى المقعد الأمامي بجانبه، حيث جلست صديقتاي. بالفعل، جلست بينه وبين الفتاتين، وصرنا إذّاك ملتصقين ببعضنا البعض. بدأ ينظر إليّ نظراتٍ غريبة، وجدتها جميلة حتّى أنّني شعرت بالخجل وحنيت رأسي إلى الأرض. ارتبكت، ورحت أسأل نفسي: ماذا أفعل؟ أين أنظر؟ هل أحبّني؟
أظنّني أعجبته.
بعد أسبوع من لقائنا الأوّل، وبعد أن بقينا وحدنا في الفان، أخبرني خالد بأنّه معجب بي كثيراً. هو لم يكن قد تجاوز التاسعة عشر من عمره آنذاك، لكنّه ملأ عليّ حياتي، وعوضني عن الكثير من النقص الذي أشعر به.
سيطرت على رأسي فكرة واحدة: إن فزت بقلبه فإنّه سيحميني من العالم أجمع، ولن يستطيع أحد أن يحزنني.
أفكّر الآن أنّني ربّما لم أحبّه. كيف أحبه ولم يكن قد مرّ على تعارفنا سوى ثلاثة أشهر حين وصل خبر علاقتنا لأهلي، فأجبرونا على الارتباط الرسميّ. ولو أنني سلّمت بحبي له، إلّا أنّني لم أكن أنوي الزواج به بهذه السرعة وبهذا السن المبكر.
عرفت أمّي بعلاقتنا من جيراننا الذين تصحبني ابنتهم في الباص. حين رأتني أمّي شدّتني من شعري وسحبتني على الدرج، وصارت تسألني عن حقيقة وجود علاقة حب بيني وبين ابن عدنان. أنكرت مراراً وتكراراً، وكلّما أنكرت انهالت عليّ بالضرب والشتائم. صوّرت والدتي الحب على أنّه جريمة وخطيئة، يحرّكها في ذلك خوفها من كلام الناس: “العالم رح تحكي علينا”. كلّ ما أردته في تلك الليلة أن أصل إلى خالد بأيّ طريقة لأخبره أنّني ضربت وحرمت الذهابَ إلى المعهد. أليس هو البطل القويّ الذي سينقذني؟
عندما لحظ خالد غيابي في اليوم التالي، دفع شقيقته للاتصال بي بحجة الدروس التي فوّتّها عليّ.
– “خالد قلق عليكِ كثيراً ويريد الاطمئنان”.
كنت أرتجف وأبكي كأنّني أستغيث به. أخذ السماعة منها، وقال لي:
– “أنا أرغب بالزواج منك، ولكنّني لا أملك شيئاً، ولم أبدأ ببناء مستقبلي بعد. ما الذي يمكنني فعله؟”.
أبعدت عن المعهد وعن رفيقاتي قسراً، وغبت عن الكثير من الحصص الدراسيّة. كنت طوال فترة العقاب أسأل والدتي عن السبب وراء ما تفعله، هل يستأهل ما فعلته عقاباً كهذا؟ لكنّ شكواي لم تغيّر في رأيها شيئاً. كان همّها الوحيد أن يأتي خالد ويتقدّم لخطبتي.
في النهاية، وبعد أكثر من أسبوعين قرّرت والدتي السماح لي بالعودة الى المعهد، ولكن بفان آخر اختارته هي. حدث ذلك بعدما أخبرتها بأنّي أوصلت خبراً إلى خالد، بواسطة رفيقتي، كي يأتي لزيارتنا، وبأنّه سيأتي بالفعل للتعرّف عليها، فور عودته من بيروت.
حتّى ذلك الوقت لم يكن والدي يعرف بالأمر بعد. استتبت الأمور بعض الشيء بعد عودتي للمعهد، وفي أحد الأيام قررت الذهاب مع أصدقاء آخرين إلى بيروت، لألتقي بخالد. وبطريقةٍ ما وصل الخبر لابنة عمّتي التي لم أكن أعرف بأنّها على علاقةٍ بأحد أصدقاء خالد. لسوء حظّي قرّرت ابنة عمّتي أن تخرّب المشروع فوق رؤوسنا. خلال تواجدي في الصف في المعهد، طُرق الباب، ودخل المدير ليسأل عمّا إذا كنت موجودة، فوقفت منبّهةٍ إياه لوجودي، مستغربةً سؤاله. طلب منّي الجلوس ثمّ خرج، بعد عودتي إلى المنزل عرفت أنّ والدي تلقّى اتّصالًا من رقمٍ مجهول يخبره أنّ ابنته ريم هربت “خطيفة” مع خالد ابن عدنان. جنّ والدي الذي لطالما عاملنا بقسوةٍ وحرّم علينا الكثير من الأشياء. طلب أن يسرّع خالد بزيارتنا. لم يكن أمامي وقتها إلّا إعلام خالد بأنّ والدي بات على علمٍ بقصّتنا، وبأنّه لم يعد بوسعنا أن نتأخّر.
ظننت أنّ لقاء خالد بأهلي سيخلّصني من السجن الذي أعيش فيه، لكنّه لم يستطع أن يفعل شيئاً. عندما أتى أخيراً للتعرّف على والدتي أخبرها بأنّه يحبّني ويرغب بالارتباط بي، لكنّه لا يمتلك أيّة وظيفة وينتظر قبوله في الجيش ليتقدّم لي. مع ذلك أصرّت والدتي على الارتباط الفوري.
في النهاية وافق خالد على التقدّم بشكل رسميّ لخطبتي ووافق أهله أيضاً. عندما حان موعد زيارتهم لطلب يدي، كنت متحمّسة وفرحة ومحتارة بما عليّ تحضيره وتجهيزه. الآن أفكّر أن منبع فرحي في ذلك اليوم كان فكرة الخلاص من أهلي وظلمهم أكثر من كونه احتفاءً بخالد. مع وصول الضيوف سيطر عليّ الخجل والتوتّر. استقبلتهم مع أهلي، وارتجفت يداي حين قدّمت لهم فناجين القهوة. بعدها انزويت في غرفتي، أسترق السمع لحديثهم. أكّد خالد مع أهله لعائلتي أنّه غير قادرٍ على شراء بيت حالياً، لكن والدي لم يعترض واقترح عليه استئجار بيت.
وافق أهلي يومها على كلّ شيء، ولم يعلّقوا حتى على اختلاف طوائفنا.
يوم كتب الكتاب وقفت أنا أنتظر جانباً، فيما تحدّث والدي إلى والد العريس وشبكا يديهما وردّدا الكلمات التي يقولها الشيخ. حدث كلّ شيء ببساطة تامّة من دون أن ينظر إليّ أحد.
"عندما ينتهي حفل الزواج ستذهبين مع خالد إلى بيتكما وستصيرين في سريره. سيقترب منك، وفي مرحلة ما ستشعرين بوخزة صغيرة، شكّة دبّوس، مثل إبرة سريعة".
وفي اليوم التالي دعاني خالد إلى المطعم لكنّ والدي رفض، “كيف بدك تروحي وتجي معو هيك؟”، ولولا تدخّل والدتي وإقناعه بأن لا مشكلة في ذهابنا وحدنا “كونه انكتب كتابنا” لمنعني من الخروج. خلال فترة الخطبة، حاولت أن أقنع أمّي مراراً بتأجيل الزواج ريثما أنهي دراستي، لكنّها كانت ترفض. حاولت إخبارها بطموحي، وبرغبتي أن أتوظّف في البنك بعد تخرّجي، لكنّها كانت دائما تتحجّج بأنّ والدي لن يوافق: “ما عنّا بنات تروح وتجي مع شباب بلا زواج”.
على الرغم من ذلك كنت سعيدة بعملي على تجهيز بيتي الزوجيّ الذي سأستقر فيه. زاد من سعادتي تأثّري بكلام من حولنا، والذي جعلني متحمّسة لفكرة الزواج. لقد أقنعوني بأن الزواج هو مصدر السعادة للفتاة. يقولون: “غداً تتزوجين، وتنجبين أطفالاً. في النهاية ليس للمرأة شيءٌ سوى بيتها وزوجها، ومهما درستِ وحصّلت من شهادات، وحتّى لو توظّفتِ، فإنّ مصيرك العودة إلى المطبخ”.
الآن فقط صرت أعرف الحقيقة. أسأل نفسي أحياناً: “ما المسار الذي كانت ستّتخذه حياتي لو استمع أبي وأمي إلى ما أريده؟”.
لكنّهم لم يستمعوا إليّ ولم يحاولوا فهمي، بل رضخوا للعادات والتقاليد والخوف من المجتمع. ربّما لو جعلوا مدّة الخطوبة أطول لأتعرّف على خالد بشكل أفضل، لا لإنجاز تحضيرات البيت والعرس، ربّما كنت تراجعت واخترت ألّا أكمل الطريق معه.
بعد عامٍ وثلاثة أشهر انتهينا من تجهيز المنزل. وفي يوم العرس تشاجرت مع خالد، وعاد الشكّ إلى قلبي. سبب الخلاف حلمٌ بسيط أصررت عليه، كما كانت لتفعل أيّ مراهقةٍ مكاني. طلبت من العريس أن يصحبني إلى موقع التصوير، لكنه رفض بسبب انشغاله، فغضبت منه واعتراني الحزن. خلعت المحبس ورميته في وجهه. كأنّني كنت أبحث عن أيّ سببٍ لأتراجع. ربّما لأنّ بعض رفيقاتي في ذلك اليوم حاولن إقناعي بألّا أتزوّج، وبأن أعود معهنّ إلى المعهد. كنّ مدركاتٍ، كما كنت مدركة، أنّني إن تركت مقعدي الدراسي الآن لن أعود إليه أبداً، ولو حاولت إقناع خالد بذلك.
في النهاية تراجعت واعتذرت، لأنني فهمت أنّ ضغط الأهل المخيف يمكن أن يؤدي لوقوع المصائب.
لكنّني بكيت في ذلك اليوم حزناً على ما جعلني والداي أعيشه، وعلى إجبارهما لي على الزواج في تلك السن المبكرة. في بعض الأحيان أشعر بأنّني لا أعرف ما تعنيه كلمة مثل طفولة، واللوم في ذلك كلّه يقع على أهلي، فقد حرمونا من الكثير من الأشياء، مردّدين كلمتهم المفضلة “ممنوع”، طوال الوقت ومن دون توقّف.
لاحقاً، قادتني أختي الكبرى إلى غرفتي وأمرتني بالجلوس بعد أن أغلقت الباب خلفنا.
– “عندما ينتهي الحفل ستذهبين مع خالد إلى بيتكما وستصيرين في سريره. سيقترب منك، وفي مرحلة ما ستشعرين بوخزة صغيرة، شكّة دبّوس، مثل إبرة سريعة”.
لم أفهم ما تقصده، فسألتها مستغربةً:
– “شو متل الإبرة؟”.
لكنّها لم تشرح لي أكثر. اكتفت بتحذيري من الرفض أو الامتناع عن القيام بواجبي الزوجيّ، لأنّني إن فعلت ذلك سأتسبّب للعائلة بالفضيحة والجرصة. قالت إن الناس سيبدأون بالتساؤل حول ما إذا كنت بنتاً، أي عذراء كما فهمت لاحقاً. ثم قالت، محاوِلة طمأنتي، إنّ خالد يعلم بكلّ هذه الأشياء:
– “هو رجل ويعرف، وأنت عليك إطاعته إذا كنت تحبينه، وباقي الأسئلة سيجيبك عليها بنفسه. لا تستعجلي”.
بعد انتهاء العرس، عدت وخالد إلى البيت. عندما اعتلينا السرير انقضّ عليّ، وبدأ يقبّلني وحاول نزع فستاني. وبسرعة تطوّر الوضع، فشعرت بالقلق وخفت كثيراً. لم أعرف ما الذي عليّ فعله، فبدأت بالصراخ وأمرته بأن يتوقّف. حاول تهدئتي، وقال لي: “كلها شكّة دبوس”، فانفجرت بالبكاء. بقي خالد يحاول التقرّب منّي حتّى الصباح، لكنّي تمسّك بموقفي ولم أقبل.
مع طلوع الشمس، جاءت أمي مع شقيقاتي وخالاتي لزيارتي. قبل أن أفتح الباب، تذكّرت ما قالته شقيقتي عن الألم الذي سأشعر به بعد أن أصير امرأة، أي بعد خسارتي غشاء البكارة، وبأنّ ذلك قد يعيقني عن المشي براحةٍ لعدّة أيّام. لذلك، وبمجرد دخولهنّ، تظاهرت بالألم وبعدم القدرة على المشي، فسألنني وهنّ يتهامسن ويتبادلن النظرات: “شو مشي الحال؟”. خجلت وطأطأتُ رأسي وذهبت نحو المطبخ لأحضر الضيافة، فلحقت بي والدتي. لم يكن أمامي خيارٌ سوى قول الحقيقة. أخبرتها أن شيئاً لم يحدث، لأنّي خفت، فغضبت منّي وقالت: “هذه فضيحة. لا تخبري أحداً بهذه الجرصة. الليلة يجب أن تضعي قطعة القماش هذه جانباً ليتأكّد الجميع، وخاصةً زوجك، من أنّك عذراء”.
في الليل، حاولت أن أجبر نفسي على إنجاز مطلب الجماهير، لكنّني لم أنجح.
عن سعاد التي أرغمت على الزواج في عمر الثانية عشر، وعن ليلتها الأولى كـ”زوجة”..
شعرت بأنّ خالد بدأ يسأم منّي، وفي الليلة الثالثة قال لي إنّ من الضروري أن ننهي الموضوع من ساعتنا، بدون تأجيل، وإلّا سيشكّك برجولته، وهذه فضيحة كبيرة في حقّه. كنت مرعوبة، وكلمة إبرة تطنّ بلا توقّف في رأسي، لكنّني سلمت جسدي له. وبعد أن انتهى شعرت بروحي تتكسّر من الداخل، لا أستطيع وصف ما شعرت به من خوف، كأنّ إحساسي بالأمان قد سلب منّي إلى الأبد.
صرت امرأة وأنا لم أزل مراهقةً في السادسة عشر من عمري. لم أستوعب ما جرى فبكيت. ظنّ خالد أنّني موجوعة بسببه فسألني إن كان قد آلمني، فهززت رأسي من دون كلام.
في الصباح سلّمت قطعة القماش لوالدتي وحماتي، فراحتا تزغردان فرحاً، ثم هنأتاني على شيءٍ لم أعرفه. وفي الأيام الثلاثة التالية لم أعرف من أنا، كنت أبكي في كلّ مرّة يواقعني فيها، أنظر إلى نفسي في المرآة وأشعر بالاشمئزاز والكراهية، وأسأل نفسي: هل هكذا يكون الزواج؟ ما قال خالد إنّه سيكون جميلاً كان في الحقيقة بشعاً. حتّى اليوم لا أعرف إن كانت العلاقة الحميميّة حميميةً فعلاً. بالنسبة لي لم تكن سوى علاقة مخيفةً ومقزّزة. مرّت الأيّام وأنا أبكي كلّما اقترب منّي، أشعر بالقرف والأذى والرعب، لكنّ الرفض ممنوع، وعليّ إطاعته وتلبية رغباته.
حبلت للمرّة الأولى بعد ثلاثة أشهر من زواجنا، أي في السادسة عشر من عمري. كنت أريد الطفل ولا أريده في الوقت عينه. لم أكن مستعدّة للإنجاب، وكنت أعرف ذلك، لكنّني شعرت بفرحة كبيرة عندما علمت بحبلي، لأنّني أسمع دائماً من أهلي ومن الجيران عن ضرورة إنجاب طفل كي لا يقول عنّي أهل زوجي والناس أنّني عاقر. تضاعفت فرحتي لمّا عرفت أنّ الجنين صبي لأنّ زوجي كان يريد صبياً، ولأنّ ذلك سيجلب لي اهتمام الجميع. الآن أتذكر سخف تفكيري في ذلك الوقت. كنت من اللواتي يعتقدن أنّ إنجاب الصبي سيمنعه من الزواج بأخرى ومن تطليقي.
وفي الفترة نفسها خانني خالد للمرّة الأولى. كنت عائدةً من عند أختي، عندما طرقت باب البيت عدّة مرّات ولم يفتح أحد. اضطررت لوضع الكراسي فوق بعضها البعض لأتمكن من دخول البيت عبر شبّاك المطبخ. وهناك كانت الصدمة، إذ وجدته مع رفيقة لي. شتمتهما فانقضّ عليّ وضربني بوحشيّة وغرقت في بركة من الدماء. أصبت بنزيف وظننت أن الجنين قد مات. اتّصلت بأمّه فأتت لمساعدتي ونقلتني إلى المستشفى. نجا الطفل لحسن الحظ، وبقيت عند أهله أسبوعاً أتلقّى العلاج، ولم أخبر أهلي بما حدث. لكنّ تلك الحادثة لم تردعه عن ضربي، بل على العكس من ذلك صار يتمادى أكثر وأكثر. وأنا، لأعوّض كرامتي المهدورة، أجلس أمام مرآتي وأضع الماكياج، فأشعر بأنّني أولد من جديد، أولد امرأة قوية.
بسبب هذا الوضع لم أعِ معنى حملي لجنين داخل أحشائي، فقد كان الألم والوجع قوام حبلي، حتّى أنّني قضيت عشرة أيام في المستشفى بسبب شدّة التعب، فقد أصبت بالزلال وتغيّر وزني بشكل غير طبيعي.
كنت أشعر بالخوف طوال الوقت الذي أتواجد فيه معه، يحاصرني الذعر حتّى في نومي. كنت أشمئز من لمساته، لكنّه كان يلمسني بالقوّة. كان يجبرني على ممارسة الجنس معه بالقوّة.
لم أكن سعيدة طوال تلك الفترة. وفي اليوم الذي أتاني فيه طلق الولادة، وبدأت مياه الرأس بالنزول، لم أفهم ما الذي كان يجري، اتّصلت بوالدتي من شدّة الخوف، وأخبرتها أنّني أعاني من تبوّلٍ لا إرادي. خلال الولادة تعذبت كثيراً، شعرت بألمٍ غير مألوف، أكبر من قدرتي على تحمّله، جسدياً ونفسياً. كنت صغيرةً على تجربةٍ كهذه.. وعندما وضعوا الرضيع بين يديّ نظرت باستغراب، كما لو أنّني أحمل لعبةً ما. لم أعرف ما الذي يتوجّب عليّ أن أشعر به.
لقد ظننت أنّ الزواج سيكون نسخةً عن لعبة بيت بيوت، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. عندما يستيقظ الطفل في الليل ويبكي أبدأ بالبكاء معه، من دون أن أفهم ما الذي يريده. وحين يمرض أمرض معه. كنت أمضي كلّ وقتي مع طفلي، أهتمّ به، وألعب معه، وأطعمه، حتّى أنّني كنت أتحدّث معه وأشكي له وأخبره بما يزعجني.
لم يكن قد مرّ على ولادتي الأولى سوى تسعة أشهر حين حبلت بابني الثاني. ورغم كلّ العنف الذي كنت أتعرّض له، صدّقت أنّ الطفل الثاني، كما أخبروني، يغيّر الزوج ويجعله أكثر مسؤوليّة. لكنّني، ومع مرور الوقت اكتشفت أنّ الحياة عند أهلي كالحياة عند خالد، كلتاهما أسوأ من بعضهما البعض.
“.. عندما عاينتني الطبيبة شعرتُ بالخوف. لم أكن اعرف ما الذي سيحدث في الداخل. قالت إن عمري ١٤ سنة ولا يمكن أن أنجب أطفالاً الآن، لكنهم أرادوا أن يخضعوني لعملية..”
لم يتوقف الضرب حتى بعد إنجابي طفلي الثاني. كنت قد شارفت على بلوغ عامي الثامن عشر عندما ضربني زوجي بشكل مرعب. لم أتحمّل ذلك ولجأت الى والدتي، ظنًّا مني أنّها ستتفهمني أكثر من غيرها نظراً لأنّها تعرّضت للعنف والضرب من والدي بدورها. خاب ظنّي، فقد عاملتني أمّي ببرودة وقالت: “كل زلمة بيضرب”، وأخبرتني أنّ من واجبي تحمّل ذلك لأجل أولادي.
بعدها بفترةٍ تركت البيت من شدّة الضرب، وذهبت إلى بيت أهلي مع كدماتي ودمائي على وجهي. رفضت أمي أن نتقدم بشكوى ضد خالد عند المخفر، “شو بدنا نتشكى ع إنسان مجنون؟”. انتظرت بفارغ الصبر ما الذي سيقوله أبي لزوجي وكيف سيحميني، لكنّه قال: “إن كنت تريدينه وتريدين رؤية أولادك فارجعي إليه من فورك، واعلمي جيّداً أنّه لا يحقّ لك الاعتراض ولو جلب إلى بيته كل نساء القرية..”.
مرّت سبع سنوات وأنا أتحمّل الضرب والإهانة والخيانة. لم أعد أخبر أهلي بشيء، لأنّهم لن يقوموا بحمايتي. كنت أشعر بالخوف طوال الوقت الذي أتواجد فيه معه، يحاصرني الذعر حتّى في نومي. كنت أشمئز من لمساته، لكنّه كان يلمسني بالقوّة. كان يجبرني على ممارسة الجنس معه بالقوّة.
دمّرتني هذه الأمور كلّها، وتأكّدت أكثر أنّ الزواج الحقيقي لا يشبه أحلام المراهقات في شيء. ومع ذلك لم أتطلّق للحفاظ على أولادي ولحمايتهم، وخشيةً من ألسن الناس في الضيعة.
ما أسهل أن ينخدع الإنسان بالأمل.
في العام 2017 حبلت للمرّة الثالثة، بعد اتفاقٍ مع خالد على أن كلّ حياتنا ستتغيّر، وبأنّه سيبدأ بإصلاح نفسه لإسعادنا. على هذا الأساس حملت بابني أمجد. في السادسة والعشرين من عمري، شعرت لأوّل مرّة بأنّني أعرف معنى الأمومة وأرغب بها. لم أعد طفلةً بعد اليوم، رحت أستشعر دقّات قلبه وحركات يديه. كنت واعيةً بكلّ ما يجري في داخلي، ويوماً تلو يوم صرت أحسّ بنموّ الصغير في داخلي. كنت سعيدةً في تلك الفترة، حتّى أنّ العوارض الصحيّة التي أصابتني في المرتين السابقتين اختفت هذه المرّة: لم يرتفع وزني كثيراً، ولم تتأذَّ صحّتي النفسية والجسديّة.
حاولت أن أصنع بداية جديدة، بصدق واستعداد تامٍ لقلب بؤس حياتي الزوجيّة إلى سعادة. هل كان ذلك سذاجة منّي؟ ربّما، لكنّ أكثر النساء حنكةً لن تتخيّل أن يقوم الأب بقتل جنينه. نعم، زوجي خالد قتل ابني أمجد، يحرّكه جنونه وهوسه. حاول خالد، في إحدى الليالي، أن يتقرّب مني بحركةٍ مرعبة لدرجة أنني لم أعتدها رغم تكراره لها عبر السنين، أنا التي اعتدتُ كلّ ضروب العنف والقسوة. سحب بيده السيجارة من فمه ومرّرها على جلدي. انتفضت فزعةً بشكل لا إرادي، وفي تلك اللحظة اجتاحني شعورٌ غامضٌ بأنّني خسرت.
سارعت لزيارة الطبيب في اليوم التالي. دخلت غرفة الأشعة، وفور خروجي منها عاجلني الطبيب بالقول: “ريم، الطفل ميّت، قلبّه لا يدق والنبض مفقود”. صعقت، ارتميت أرضاً من فوري، ورحت أردّد بلا وعيٍ “الطفل ميّت، الطفل ميّت”. دخلت في نوبة اكتئاب حادة وطويلة، وأصبت بالتهاب في عصب القلب. وصف لي الطبيب أدوية أعصاب والـ”ترامادول” الذي أدمنته لفترةٍ طويلة. بتّ معزولة عن كلّ شيء وكلّ أحد. شعرت بأنّني بلا نفع، فاشلة، لم أقدر على إنقاذ طفلي، ورحت أفكّر بالانتحار.
قال لي الطبيب: "ريم، الطفل ميّت، قلبّه لا يدق والنبض مفقود". صعقت، ارتميت أرضاً من فوري، ورحت أردّد بلا وعيٍ "الطفل ميّت، الطفل ميّت".
خالد لم يتغيّر، وبقي على عنفه وسخطه وعدوانيته. ربّما لعب ذلك دوراً، إضافةً إلى ازدياد تعلّقي بولديّ اللذين رافقاني طوال فترة تعاطي المهدئات، وفي قراري بأنّه قد حان الوقت لأنقذ عمري الباقي.
لكنّ الفضل الأساسي في ذلك يعود لأمجد، كما لو أنّه قد مات فداءً لي. فعندما بدأت أستوعب أنّني لن أرى ابني ورأيت كيف يستمرّ جريان الحياة من حولي بشكلٍ عادي، أدركت أنّ عليّ الاستمرار أيضاً.
كنت في السابق كلّما طلبت الطلاق أهدّد بولديّ وبالحرمان من رؤيتهما، فأسكن منكسرةً وأرجع إلى خالد. لكنّني الآن، تحوّلت من امرأة ضعيفة الى امرأةٍ قويّةٍ قادرةٍ على المواجهة. حرّرني موت ابني من الخوف من خسارة أطفالي وخلق ذلك في نفسي القوّة لتحمّل الإرغام على التخلّي عن أطفالي. لم يعد باستطاعة أحدٍ أن يهدّدني بحرماني منهم.
بدأت أحضّر للهروب من زوجي والنجاة منه. أقول لنفسي: “أنا لست سلعة يملكها، ولا يحق له أن يعاملني بهذه الطريقة. لماذا الخوف منه ولأجل ماذا؟! تحمّلت وضحّيت طوال هذه السنوات من أجل أولادي، لكنّني في النهاية إنسانة”. في أحد أيام حزيران من العام 2019، حملت أولادي وذهبت إلى أهلي وواجهتم بكل جرأة: “أريد الطلاق، وإذا كنتم لا ترغبون ببقائي سأحمل أطفالي وسأهرب بهم إلى مكان آخر. لن تتمكنوا من رؤيتنا مجدداً”.
كنت قد غيّرت قبل ذلك سلوكي مع أبي وأمّي. صرت أتحدّاهم وأرفض الرضوخ لضغوطهم. هما السبب الرئيسي لمأساتي، أولاً بسبب إصرارهما على زواجي المبكر، وثانياً لتخلّيهما عن حمايتي ومساعدتي يوم التجأت إليهما بعد تعرّضي للضرب. لذلك، لم أتفاجأ بوقوفهما ضدّي، متذرعَين بالجملة المعتادة: “شو بدك العالم تحكي علينا؟”. لم أبالِ وبقيت مصرّة على قراري، حتّى حين هدّدتني أمي بالقتل إن فعلت شيئاً ممّا أقوله، أجبتها ببرودة “اقتلوني!”.
حكاية عبير التي تزوجت في الثالثة عشر من عمرها، وفي السادسة والعشرين اتخذت قرار الطلاق: عليك أن تتحدّي الدنيا.. أنا تحدّيتها!
حصلت في النهاية على ما أريده. حين أبلغ الشيخ خالداً بأنّني لم أعد زوجة له، شعرت بأنّني تحرّرت منه. لم يعد يجمعني بمن ظننته فارس الأحلام وأنا في الخامسة عشر، سوى ولدينا. كان الطلاق أوّل انتقامي، لكنّه لن يكتمل إلّا بنجاحي بالابتعاد عن أهلي والاستقلال عنهم. عندها فقط أكون قد انتقمت لطفولتي ومراهقتي ولسنوات عمري التي ضاعت.
لم أعد ريم ابنة الخمسة عشر عاماً التي كنتها. صرت اليوم ريم أخرى مختلفة، لا ترى الحياة ببساطة أحلام المراهقات وسهولتها. في الماضي أرادت أمّي أن أعيش ما عاشته وأن أخضع لما خضعت له قبلي، وفضّل والدي التخلّص من مصاريفي وأعبائي. في الحاضر صرت أعرف أنّ الزواج المبكر هو حكم بالإعدام على الفتيات. نحن بحاجة لأن نعيش أكثر وأن نسعى لبناء مستقبلنا وتحقيق أحلامنا قبل الإقدام على هذه الخطوة. آنذاك، لم أملك حرية الخيار فقبلت بما أعطي لي، لكنّني اليوم، بعد أن قاربت الثلاثين من العمر، صرت قادرة على الاختيار فحريّتي ملك يديّ.
كتابة: جويل عبد العال
رسم: ثروة زيتون
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
ترجمة إلى الانكليزية: صباح جلول
إشراف: إبرهيم شرارة
منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.
محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد
تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.
منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.
محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد
تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.
القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.