هنا في الشوف.. حسن ضيافة الطبيعة والناس

بجهد فرديّ وإصرار لا يستسلم أمام العوائق، مشاريعُ تنموية استفادت من غنى المنطقة ومن الكفاءات المحلية، لتنشط سياحة ريفيّة وداخليّة تقدّم للضيف تجربة فريدة، تجمع بين طبيعة المكان ورحابة ناسه وتنوّع نمط عيشهم.

ميرنا يزبك

محترف عسّاف والحلم الذي تحقّق

التقيته فيما هو يترجّل من سيّارته، يحمل إزميلاً بيدٍ ويثبّت بالأخرى قلنسوته البيضاء على رأسه. كان الهواء المفعم برائحة أشجار الصنوبر بارداً بقدر ما كان منعشاً. ابتسم الرجل الثمانيني ذو النظرات الجادّة، مرحبّاً بي. إنّه النحات الشيخ كامل عساف.

يُعرف النحات الشيخ كامل عساف بسمعته الطيبة في المنطقة، وبسيارته الرينو الخضراء التي رافقته لسنين طويلة.

كان في الثانية عشر من عمره عندما حمل المطرقة والإزميل لأوّل مرّة في حياته. لم يكن بحاجة لأكثر من ثلاث سنوات في ورشة أبيه ليتقن المهنة التي تحتاج جهداً وصبراً ودقّةً عالية. بحسّ فني وباحترافية، ولج عالم النحت بحثاً عن مهنة ومورد عيش. عندما أتمّ العشرين من عمره انتقل كامل إلى عاليه. هناك لاقت جودة عمله شهرةً وتقديراً كبيرين، فتعرف إلى فنّاني المنطقة ونمت بينه وبينهم صداقات عدّة. فتح ذلك الباب أمامه لتوسيع عمله ومكّنه من إعالة أسرته. أنجب كامل ثلاثة أولادٍ هم عسّاف، وعارف، ومنصور، نشأوا كأبيهم على صوت المطرقة والإزميل. وكان حظهم أوفر لأنّ الأجواء الفنيّة السائدة في منزلهم وأحاديث الأصدقاء سهّلت عليهم التعلّم وشجّعتهم على السعي إلى الإبداع وتنمية الجانب الفنّي في المهنة.

حفر كامل في الصخر، حرفياً، لتأمين مستقبلٍ واعدٍ لأبنائه، لكن الحرب الأهلية اندلعت في العام 1975، فلم تبقِ لا حاضراً ولا مستقبلاً. منعت “الأحداث” أولاده من استكمال دراستهم الجامعية، ولم يعد أمامهم سوى التخلّي عن أحلامهم الدراسية والتفرّغ لعالم النحت. بعدها بأعوام سيبدأ الأبناء بتحويل منطقة البصيل، حيث التُقيتهم ووالدَهم، إلى معرض لأعمالهم.

في العام 1956، تعرّض لبنان لزلزال كبير، وعانى الناس لا سيّما في قضاء الشوف من الدمار والتهجير. لم ينجُ أحدٌ من سكان الورهانية، التي اكتسبت اسمها من كلمتَي “الورع والرهبانية”، عدا مَن كان يصلي في خلوات العبادة في أعالي الجبل. بالرغم من قسوته، فجّر الزلزال ينابيع وعيون المياه في منطقة البصيل، ممّا جعلها أكثر خصوبة ودفع أهل المنطقة لزراعتها واستثمار خيراتها. فور دخولي الطريق المتعرّج والمتشقّق المؤدّي إلى المنطقة، لحظت الأراضي الخصبة عن الجانبين، حيث تنمو أنواعٌ مختلفة من الخضار والأشجار، ثمّ رأيت يافطة كُتب عليها “محترف عساف”، وجهتنا المنشودة في هذه الرحلة.

التقيته فيما هو يترجّل من سيّارته، يحمل إزميلاً بيدٍ ويثبّت بالأخرى قلنسوته البيضاء على رأسه. كان الهواء المفعم برائحة أشجار الصنوبر بارداً بقدر ما كان منعشاً. ابتسم الرجل الثمانيني ذو النظرات الجادّة، مرحبّاً بي. إنّه النحات الشيخ كامل عساف.
يُعرف النحات الشيخ كامل عساف بسمعته الطيبة في المنطقة، وبسيارته الرينو الخضراء التي رافقته لسنين طويلة.
كان في الثانية عشر من عمره عندما حمل المطرقة والإزميل لأوّل مرّة في حياته. لم يكن بحاجة لأكثر من ثلاث سنوات في ورشة أبيه ليتقن المهنة التي تحتاج جهداً وصبراً ودقّةً عالية. بحسّ فني وباحترافية، ولج عالم النحت بحثاً عن مهنة ومورد عيش. عندما أتمّ العشرين من عمره انتقل كامل إلى عاليه. هناك لاقت جودة عمله شهرةً وتقديراً كبيرين، فتعرف إلى فنّاني المنطقة ونمت بينه وبينهم صداقات عدّة. فتح ذلك الباب أمامه لتوسيع عمله ومكّنه من إعالة أسرته. أنجب كامل ثلاثة أولادٍ هم عسّاف، وعارف، ومنصور، نشأوا كأبيهم على صوت المطرقة والإزميل. وكان حظهم أوفر لأنّ الأجواء الفنيّة السائدة في منزلهم وأحاديث الأصدقاء سهّلت عليهم التعلّم وشجّعتهم على السعي إلى الإبداع وتنمية الجانب الفنّي في المهنة.
حفر كامل في الصخر، حرفياً، لتأمين مستقبلٍ واعدٍ لأبنائه، لكن الحرب الأهلية اندلعت في العام 1975، فلم تبقِ لا حاضراً ولا مستقبلاً. منعت “الأحداث” أولاده من استكمال دراستهم الجامعية، ولم يعد أمامهم سوى التخلّي عن أحلامهم الدراسية والتفرّغ لعالم النحت. بعدها بأعوام سيبدأ الأبناء بتحويل منطقة البصيل، حيث التُقيتهم ووالدَهم، إلى معرض لأعمالهم.
في العام 1956، تعرّض لبنان لزلزال كبير، وعانى الناس لا سيّما في قضاء الشوف من الدمار والتهجير. لم ينجُ أحدٌ من سكان الورهانية، التي اكتسبت اسمها من كلمتَي “الورع والرهبانية”، عدا مَن كان يصلي في خلوات العبادة في أعالي الجبل. بالرغم من قسوته، فجّر الزلزال ينابيع وعيون المياه في منطقة البصيل، ممّا جعلها أكثر خصوبة ودفع أهل المنطقة لزراعتها واستثمار خيراتها. فور دخولي الطريق المتعرّج والمتشقّق المؤدّي إلى المنطقة، لحظت الأراضي الخصبة عن الجانبين، حيث تنمو أنواعٌ مختلفة من الخضار والأشجار، ثمّ رأيت يافطة كُتب عليها “محترف عساف”، وجهتنا المنشودة في هذه الرحلة.

في آخر الطريق ظهرت لي البيوت والحجارة، وأفسد هدير محرّك سيارتنا الهدوء الذي يعمّ المكان. حين وصلنا إلى موقف السيارات وأُطفأنا المحرّك، عادت موسيقى الطبيعة لتطغى على المكان: خرير الماء وزقزقة الطيور وحفيف الأوراق. نزلت من السيارة وقد أخذت بسحر المكان، أنقّل عينيّ من مكان إلى آخر، حتّى وقعتا على الشيخ كامل يترجّل من سيارته. دعانا الرجل للجلوس في فيء ثلاث سنديانات معمّرات بجانب البيت، وانضم إلينا أبناءه الثلاثة.
في أوائل التسعينيات سعى الأخ الأكبر عساف للتركيز على الإبداع في النحت، فبدأ بتنفيذ أفكاره وساعده في ذلك أخواه الذين تتلمذا وتعلّما معه. بعد ثلاثة أعوام، تعرف الإخوة إلى أقارب نبيه أبو الحسن المعروف بأخوَت شانيه، فأنجزوا له تمثالاً نُصِب في بتخنيه.
بدأ الإخوة بالبحث عن فنانٍ يتماهون مع فنّه لينحتوا له مجسّماً تكريمياً، فوقع اختيارهم على حسن علاء الدين، المعروف بـ”شوشو”، وقد كان فناناً فطريّاً مهماً، عاش ومات فقيراً، وقدم حياته للمسرح. بعد سنة ونصف من الجهد المتواصل، أنجز الإخوة العمل في العام 1995. نحت الأشقاء التفاصيل بدقّة، من أسنانه وشاربيه الطويلين إلى جسده النحيل… صار التمثال أول ما يستقبلك في صالة العرض في متحف الأخوة عسّاف، فترتسم على وجهك ابتسامةٌ فوريّة. حظي التمثال والمبادرة بشهرة واسعة، وفي السنة التالية، دعاهم ابن أخ ميخائيل نعيمة، نديم نعيمة، إلى بلدة الشخروب ليقوموا بتخليد ذكرى عمّه بنحت تمثالٍ له في إحدى الصخور. انتقل الأخوة إلى المنطقة، وعاشوا فيها طوال أربعة شهور لإنجاز العمل. هناك، لاحظ عساف ظهور شكل فيلٍ في الصخرة عند النظر إليها من زاوية معيّنة واختفاءه من زوايا أخرى. لمعت عند ذلك في باله فكرة قرّر تنفيذها في محترفه بعد تصميم وتخطيط مطوّلين.
في العام 1997، بدأ حلم الأخوة في خلق مساحةٍ فنيّةٍ وثقافيةٍ وبيئيةٍ يتحقّق، مساحة تكرّس مبدأ الاحترام الذي غرسه الوالد في نفوسهم، احترام الطبيعة والحجر والعمل والآخر. وفي العام 2016، افتتح المشروع أمام الزوّار وتمّ إدراجه على الخارطة السياحية في الشوف.
عند وصولنا استقبلنا وجه كمال جنبلاط، وقد نحت في سبع صخور يفوق وزنها المئة وعشرين طنّاً في قلب التلّة. أما بالقرب من موقف السيارات، فقد نُصب تمثال من البرونز لشهيد الاستقلال سعيد فخر الدين.

لم أعرف أشجار اللزاب والقطلب والبطم قبل هذه الرحلة سوى في كتب المدرسة. قادني مسار ترابي مصمم بشكلٍ مدروس لأتعرف إلى أنواع النباتات والأشجار المحميّة في المكان. ثمّ أكملت الجولة على ست منحوتات تجريدية متعاقبة لا شكل واضح لها، ويُقال أنّ كلّ واحدةٍ منها ترمز لحاسة من الحواس، وإن كان يمكن لكلّ شخص أن يرى فيها ما يشاء. أتوقف بعدها عند فتحةٍ صغيرةٍ يمرّ منها الضوء بشكل طولي، وكُتب فوقها ميخائيل نعيمة. أنظر من الفتحة فإذ بوجه الكاتب يتشكّل من المنحوتات الست. سهر الشبان الثلاثة لإجراء دراسات متعدّدة للنسب والمقاييس وحركة الشمس وتأثّرها بالظل والنور، والاختلاف بين الفصول. استغرق البحث والعمل لإنجاز هذا المشروع عشرة أعوام، ليكون عند إتمامه منجزاً فنيّاً قلّ مثيله.
أنزل الدرج في النفق الحجري، فيلفحني هواء منعش، ويقودني صوت المياه إلى الطابق السفلي حيث يسكن الأخوة. إنّه بيتٌ ريفيٌ متناغمٌ مع البيئة المحيطة به، بُني بشكل يراعي حركة الشمس والرياح، وصنع سقفه من تراب حفرت فيه أقنيةٌ لتجميع المياه وتكريرها. يقع المتحف في الطابق السفلي أيضاً، أتنقّل بين التماثيل، بعضها لشخصياتٍ مشهورةٍ. هناك أيضاً مجسّمٌ مصغّر للمشروع المستقبلي الذي يخطط له الأشقاء، والذي سيمتد على مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع عند اكتماله، وفيه مسرح، وصالة عرض كبيرة، والمزيد من البيوت البيئية لاستقبال إقامات الفنانين، إضافة إلى أكاديمية لتعليم فن النحت.
بعد ذلك أدخل المحترف الذي تنجز فيه كل الأعمال الفنية. أنظر إلى التماثيل الصغيرة، بعضها من طين وبعضها من ريزين(Resin)، وأرى أدوات العمل فأحاول تخمين وظيفة كلّ واحدةٍ منها. هنا تبدأ كلّ تلك المنحوتات، وهنا تنتهي رحلتي وأصل إلى نقطة الخروج.
تعرّفت في جولتي تلك على الكثير من المعلومات وملأت ناظري بجمال الطبيعة وجمال المنجز البشري. فكّرت أيضاً، كيف أنّ هذا المشروع لم يكن ليبصر النور لولا أن غيّرت الحرب حياة هؤلاء الشبّان، ودفعتهم للعمل الدؤوب والتخطيط والتعاون فيما بينهم لخلق مشروع فنّي وثقافيٍ متكامل.

في آخر الطريق ظهرت لي البيوت والحجارة، وأفسد هدير محرّك سيارتنا الهدوء الذي يعمّ المكان. حين وصلنا إلى موقف السيارات وأُطفأنا المحرّك، عادت موسيقى الطبيعة لتطغى على المكان: خرير الماء وزقزقة الطيور وحفيف الأوراق. نزلت من السيارة وقد أخذت بسحر المكان، أنقّل عينيّ من مكان إلى آخر، حتّى وقعتا على الشيخ كامل يترجّل من سيارته. دعانا الرجل للجلوس في فيء ثلاث سنديانات معمّرات بجانب البيت، وانضم إلينا أبناءه الثلاثة.

في أوائل التسعينيات سعى الأخ الأكبر عساف للتركيز على الإبداع في النحت، فبدأ بتنفيذ أفكاره وساعده في ذلك أخواه الذين تتلمذا وتعلّما معه. بعد ثلاثة أعوام، تعرف الإخوة إلى أقارب نبيه أبو الحسن المعروف بأخوَت شانيه، فأنجزوا له تمثالاً نُصِب في بتخنيه.

بدأ الإخوة بالبحث عن فنانٍ يتماهون مع فنّه لينحتوا له مجسّماً تكريمياً، فوقع اختيارهم على حسن علاء الدين، المعروف بـ”شوشو”، وقد كان فناناً فطريّاً مهماً، عاش ومات فقيراً، وقدم حياته للمسرح. بعد سنة ونصف من الجهد المتواصل، أنجز الإخوة العمل في العام 1995. نحت الأشقاء التفاصيل بدقّة، من أسنانه وشاربيه الطويلين إلى جسده النحيل… صار التمثال أول ما يستقبلك في صالة العرض في متحف الأخوة عسّاف، فترتسم على وجهك ابتسامةٌ فوريّة. حظي التمثال والمبادرة بشهرة واسعة، وفي السنة التالية، دعاهم ابن أخ ميخائيل نعيمة، نديم نعيمة، إلى بلدة الشخروب ليقوموا بتخليد ذكرى عمّه بنحت تمثالٍ له في إحدى الصخور. انتقل الأخوة إلى المنطقة، وعاشوا فيها طوال أربعة شهور لإنجاز العمل. هناك، لاحظ عساف ظهور شكل فيلٍ في الصخرة عند النظر إليها من زاوية معيّنة واختفاءه من زوايا أخرى. لمعت عند ذلك في باله فكرة قرّر تنفيذها في محترفه بعد تصميم وتخطيط مطوّلين.

في العام 1997، بدأ حلم الأخوة في خلق مساحةٍ فنيّةٍ وثقافيةٍ وبيئيةٍ يتحقّق، مساحة تكرّس مبدأ الاحترام الذي غرسه الوالد في نفوسهم، احترام الطبيعة والحجر والعمل والآخر. وفي العام 2016، افتتح المشروع أمام الزوّار وتمّ إدراجه على الخارطة السياحية في الشوف.

عند وصولنا استقبلنا وجه كمال جنبلاط، وقد نحت في سبع صخور يفوق وزنها المئة وعشرين طنّاً في قلب التلّة. أما بالقرب من موقف السيارات، فقد نُصب تمثال من البرونز لشهيد الاستقلال سعيد فخر الدين.

لم أعرف أشجار اللزاب والقطلب والبطم قبل هذه الرحلة سوى في كتب المدرسة. قادني مسار ترابي مصمم بشكلٍ مدروس لأتعرف إلى أنواع النباتات والأشجار المحميّة في المكان. ثمّ أكملت الجولة على ست منحوتات تجريدية متعاقبة لا شكل واضح لها، ويُقال أنّ كلّ واحدةٍ منها ترمز لحاسة من الحواس، وإن كان يمكن لكلّ شخص أن يرى فيها ما يشاء. أتوقف بعدها عند فتحةٍ صغيرةٍ يمرّ منها الضوء بشكل طولي، وكُتب فوقها ميخائيل نعيمة. أنظر من الفتحة فإذ بوجه الكاتب يتشكّل من المنحوتات الست. سهر الشبان الثلاثة لإجراء دراسات متعدّدة للنسب والمقاييس وحركة الشمس وتأثّرها بالظل والنور، والاختلاف بين الفصول. استغرق البحث والعمل لإنجاز هذا المشروع عشرة أعوام، ليكون عند إتمامه منجزاً فنيّاً قلّ مثيله.

أنزل الدرج في النفق الحجري، فيلفحني هواء منعش، ويقودني صوت المياه إلى الطابق السفلي حيث يسكن الأخوة. إنّه بيتٌ ريفيٌ متناغمٌ مع البيئة المحيطة به، بُني بشكل يراعي حركة الشمس والرياح، وصنع سقفه من تراب حفرت فيه أقنيةٌ لتجميع المياه وتكريرها. يقع المتحف في الطابق السفلي أيضاً، أتنقّل بين التماثيل، بعضها لشخصياتٍ مشهورةٍ. هناك أيضاً مجسّمٌ مصغّر للمشروع المستقبلي الذي يخطط له الأشقاء، والذي سيمتد على مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع عند اكتماله، وفيه مسرح، وصالة عرض كبيرة، والمزيد من البيوت البيئية لاستقبال إقامات الفنانين، إضافة إلى أكاديمية لتعليم فن النحت.

بعد ذلك أدخل المحترف الذي تنجز فيه كل الأعمال الفنية. أنظر إلى التماثيل الصغيرة، بعضها من طين وبعضها من ريزين(Resin)، وأرى أدوات العمل فأحاول تخمين وظيفة كلّ واحدةٍ منها. هنا تبدأ كلّ تلك المنحوتات، وهنا تنتهي رحلتي وأصل إلى نقطة الخروج.

تعرّفت في جولتي تلك على الكثير من المعلومات وملأت ناظري بجمال الطبيعة وجمال المنجز البشري. فكّرت أيضاً، كيف أنّ هذا المشروع لم يكن ليبصر النور لولا أن غيّرت الحرب حياة هؤلاء الشبّان، ودفعتهم للعمل الدؤوب والتخطيط والتعاون فيما بينهم لخلق مشروع فنّي وثقافيٍ متكامل.

بيت سيزار العامر بالكفاءة والتقاليد

كان سيزار يجلس بين أصدقائه حين رنّ هاتفه منبئاً بوصول تنبيه جديد. سحب الشاب الهاتف من جيبه ليرى إشعاراً من التطبيق الذي حمّله قبل أيّام. اجتاحته حالةٌ من الحماس والمفاجأة، وانصرف ذهنه عن حديث رفاقه العاملين معه في محميّة أرز الباروك. تداخلت في رأسه صور مختلفة بعضها حقيقي وبعضها لأحلامٍ وأمنياتٍ يأمل تحقيقها.

عرف سيزار بكونه من الشبّان المحبّين للبيئة في المنطقة والعاملين على المحافظة عليها. لذا، كان من الطبيعي أن يعمل لخمس سنوات متواصلة في المحمية كدليل، مهمّته مرافقة السيّاح والزوار في جولاتهم داخل المكان، وتعريفهم على الأشجار وأنواعها والتقاط الصور معهم وتبادل الحديث. أحبّ سيزار عمله، لكنّه أراد كسر روتينه المعتاد. عندما سمع بوجود تطبيقٍ يتيح للناس العاديين أن يؤجروا بيوتهم للسياح بدل الفنادق، سارع إلى تحميله.

بعد أن وصله طلب الاستئجار الأوّل، عرف سيزار أنّ عليه ترك عمله في المحمية، ليتمكن من التفرغ لتحقيق أحلامه بالاستفادة من التكنولوجيا الجديدة، عبر تسخيرها في تطوير عمله الخاص من دون التخلي عن شغفه بالبيئة.

في اليوم نفسه، فوجئت والدته إليسار حين رأته يوضّب بعض أغراض البيت: صحون وملاعق ومناشف ومخدات. أخبرها سيزار أنّه سينقل هذه الأغراض إلى بيتهم الثاني غير المجهز للسكن بعد، وحدّثها عن التطبيق وعن سائحَين قادمَين من الصين للمبيت في البيت لمدة يومين. باندفاعٍ وحماسٍ مميزين، نجح سيزار بتجهيز البيت بمفرده سريعاً. وعند وصول السائحين، وجد من حسن الضيافة والمعاملة ما أبهرهما، فقررا بدل الاكتفاء باليومين المقرّرين تمديد زيارتهما لتصير أسبوعاً كاملاً، عاشا فيه تجربة ريفية ممتعة وأتيح لهما فيها أن يتعرفا على شجر الأرز وأن يتجوّلا في القرى المحيطة ويكتشفا حِرف أهل المنطقة وعاداتهم، وبالطبع، أن يتذوقا الأطباق المحليّة.

بعدها بدأت التنبيهات تتوالى على هاتف الشاب، ومعها توالى مجيء الزوار الآتين من داخل لبنان وخارجه إلى المنطقة. مع كلّ زائرٍ جديد كان سيزار يعمل على تطوير “التجربة الريفية الشوفيّة”، فصارت تضم جولاتٍ ومساراتٍ سياحية، يمتزج فيها حماس الشباب مع أجواء العائلة والتقاليد الريفية.

مع ذلك، ظلّ سيزار مصمّماً على الاستمرار في تكبير مشروعه. كان يجلس في الأرض البور التي تركها جده بجانب المنزل، ويملأ قرعة المتّة مرّة تلو الأخرى، ويفكّر في كيفية استثمار هذه الأرض في مشروعٍ تنموي مستدام.

بعد فترة شاءت الصدف أن يلتقي بأستاذ هندسةٍ في الجامعة الأميركية كان قد تعرّف إليه سابقاً في جولات المحميّة. كان الرجل يصنع بيوتاً خشبية ويبحث عن مكانٍ لعرض بيتين جاهزين بغرض بيعهما. رحب سيزار باستضافة البيوت وأقنع الأستاذ بالعدول عن بيعها والدخول معه عوضاً عن ذلك كشريك في مشروع لتحويل أرض جدّه إلى مزرعة مهيأة لاستقبال الزوار.

كان سيزار يجلس بين أصدقائه حين رنّ هاتفه منبئاً بوصول تنبيه جديد. سحب الشاب الهاتف من جيبه ليرى إشعاراً من التطبيق الذي حمّله قبل أيّام. اجتاحته حالةٌ من الحماس والمفاجأة، وانصرف ذهنه عن حديث رفاقه العاملين معه في محميّة أرز الباروك. تداخلت في رأسه صور مختلفة بعضها حقيقي وبعضها لأحلامٍ وأمنياتٍ يأمل تحقيقها.
عرف سيزار بكونه من الشبّان المحبّين للبيئة في المنطقة والعاملين على المحافظة عليها. لذا، كان من الطبيعي أن يعمل لخمس سنوات متواصلة في المحمية كدليل، مهمّته مرافقة السيّاح والزوار في جولاتهم داخل المكان، وتعريفهم على الأشجار وأنواعها والتقاط الصور معهم وتبادل الحديث. أحبّ سيزار عمله، لكنّه أراد كسر روتينه المعتاد. عندما سمع بوجود تطبيقٍ يتيح للناس العاديين أن يؤجروا بيوتهم للسياح بدل الفنادق، سارع إلى تحميله.
بعد أن وصله طلب الاستئجار الأوّل، عرف سيزار أنّ عليه ترك عمله في المحمية، ليتمكن من التفرغ لتحقيق أحلامه بالاستفادة من التكنولوجيا الجديدة، عبر تسخيرها في تطوير عمله الخاص من دون التخلي عن شغفه بالبيئة.
في اليوم نفسه، فوجئت والدته إليسار حين رأته يوضّب بعض أغراض البيت: صحون وملاعق ومناشف ومخدات. أخبرها سيزار أنّه سينقل هذه الأغراض إلى بيتهم الثاني غير المجهز للسكن بعد، وحدّثها عن التطبيق وعن سائحَين قادمَين من الصين للمبيت في البيت لمدة يومين. باندفاعٍ وحماسٍ مميزين، نجح سيزار بتجهيز البيت بمفرده سريعاً. وعند وصول السائحين، وجد من حسن الضيافة والمعاملة ما أبهرهما، فقررا بدل الاكتفاء باليومين المقرّرين تمديد زيارتهما لتصير أسبوعاً كاملاً، عاشا فيه تجربة ريفية ممتعة وأتيح لهما فيها أن يتعرفا على شجر الأرز وأن يتجوّلا في القرى المحيطة ويكتشفا حِرف أهل المنطقة وعاداتهم، وبالطبع، أن يتذوقا الأطباق المحليّة.
بعدها بدأت التنبيهات تتوالى على هاتف الشاب، ومعها توالى مجيء الزوار الآتين من داخل لبنان وخارجه إلى المنطقة. مع كلّ زائرٍ جديد كان سيزار يعمل على تطوير “التجربة الريفية الشوفيّة”، فصارت تضم جولاتٍ ومساراتٍ سياحية، يمتزج فيها حماس الشباب مع أجواء العائلة والتقاليد الريفية.
مع ذلك، ظلّ سيزار مصمّماً على الاستمرار في تكبير مشروعه. كان يجلس في الأرض البور التي تركها جده بجانب المنزل، ويملأ قرعة المتّة مرّة تلو الأخرى، ويفكّر في كيفية استثمار هذه الأرض في مشروعٍ تنموي مستدام. بعد فترة شاءت الصدف أن يلتقي بأستاذ هندسةٍ في الجامعة الأميركية كان قد تعرّف إليه سابقاً في جولات المحميّة. كان الرجل يصنع بيوتاً خشبية ويبحث عن مكانٍ لعرض بيتين جاهزين بغرض بيعهما. رحب سيزار باستضافة البيوت وأقنع الأستاذ بالعدول عن بيعها والدخول معه عوضاً عن ذلك كشريك في مشروع لتحويل أرض جدّه إلى مزرعة مهيأة لاستقبال الزوار.

سهّل وجود شريكٍ من صعوبة إطلاق مشروعٍ ضخمٍ كهذا وخفّف من عبء التكاليف على سيزار. من جهة أخرى استفاد الأستاذ من المشروع، وصار يأتي بطلّابه ليدرّسهم مادة تصميم الحدائق على أرض الواقع. وفي نهاية الصف، طلب منهم أن يضعوا تصاميماً للمزرعة وتبنّى مع سيزار واحداً منها، لتصير المزرعة على هيئتها اليوم. بعد فترةٍ على إطلاق المشروع ونجاحه، انفصل الشريكان، وسدّد سيزار لصديقه ما دفعه، وصار مشروعه مستقلّاً بالكامل.

اليوم صار بإمكان زوار المزرعة الاستمتاع بتجربةٍ مشابهة للعبة “فارمفيل” التي اشتهرت على فايسبوك. تفتح البوابة الخشبية عند وصولك المزرعة، وما إن تدخل حتى يلفحك هواء منعش. ترى البيت الخشبي المسقوف بالقرميد، وبركة الماء المسيجة مع بيت للبطات الخمس اللواتي يعشن فيها. بجانب البركة موقد اعتاد الشباب أن يجتمعوا حوله في سهرات نار ترفيهية في الليالي، حين تضاء حبال الأضواء لتضفي مزيداً من الدفء على المكان. في الجهة الأخرى، تتجاور البيوت الخشبية في انتظار الزوار. من بداية الرحلة إلى نهايتها سترافقك أصوات الحيوانات التي لا تكتمل المزرعة بدونها. حمار لطيف يحب النعنع يعيش مع حصانين، وبالقرب منهم يتعايش الدجاج والأغنام في الحظيرة نفسها. قبالة خزانات للمياه، ستجد حقولاً للبندورة والخيار والفلفل وغيرها من الخضار الموسميّة. سيّجت الحقول بأزهار دوار الشمس التي تعتني بها تقلا القادمة من عكار، مع سيزار جونيور وهو شاب صغير يتشارك مع سيزار الاسم والقبعة وحُبّ الأرض والبيئة. يعاون الابن أباه، و”يجنّد” من يجد فيه حماسة للعمل في الأرض، ولو كان من الزوار. أما والدة سيزار، إليسار، فتسمح لمن يشاء بالمساعدة في تحضير الفطور الريفي التقليدي، وجمع مكوّناته من المزرعة نفسها.
بعد أن كانت مجرد مساحةٍ مهملة، نجح سيزار في خلق مشروعٍ تنمويّ على أرض جدّه، واستقطب من خلاله أكثر من أربعة آلاف زائر من خمسة وستين بلداً مختلفاً. بفضل حماسه وكفاءته ساعد سيزار في تطوير منطقته وخلق فرص عملٍ لشبابها وسكّانها. بعد ذلك بمدة، انضمت نور مع والدتها لينا التي اشتهرت بأطباقها الشهيّة إلى المشروع، فطوّروا معاً مشروع “شوف سفرتنا”، الذي تصنع فيه ربات البيوت أطباقاً في مطابخهن، تقدّم خصيصاً في بيت الضيافة التابعة لمزرعة سيزار. أما كارمن ولمى، فتبيعان الزبائن المونة البلدية التي تنتجها المزرعة تحت إشراف أخصائية تغذية، وكذلك الصابون والأشغال اليدوية. وفي قرية بريح القريبة من الباروك، استحدث سيزار بيت ضيافة عند صديقة لوالدته، بعد أن قام رفقة فريقٍ من الشبّان بترميم المنزل بمفردهم، ليتاح للزوار التعرّف على بلدةٍ جديدةٍ لم تُتح لهم زيارتها من قبل. وأضاف لبرامج جولات الزوار عدّة محطات في مناطق مختلفة، منها استراحة عند امرأةٍ مسنّةٍ في بلدة بتلون تصنع بيديها مواقد من طين، وتقدّم لزوارها قرعات المتة التي تكتسب طعماً مميّزاً، و”ترويقة” في فرنٍ قديمٍ محافظٍ على وصفاته التقليدية، وغداء صحّياً وطبيعياً عند كوارة، يتبعه زيارة إلى متحف عساف، أو إلى محترف النول، وهو الفن اليدوي الذي أوشك على الاختفاء.
وفي المساء، يختتم النهار بسهرات النار والجلسات الفنيّة التي يحييها في العادة كورال غنائي أو فرقة شبابية.
نجح سيزار، عبر مشروعه الذي بدأ عن طريق الصدفة، في تقديم صورة إيجابية عن منطقةٍ ريفية وبرهنَ إمكانية نهوضها بهمّة أبناءها. وبالرغم من كلّ المصاعب التي تواجه البلاد اليوم، يبدو الشاب مصمّماً على إكمال رحلته.

سهّل وجود شريكٍ من صعوبة إطلاق مشروعٍ ضخمٍ كهذا وخفّف من عبء التكاليف على سيزار. من جهة أخرى استفاد الأستاذ من المشروع، وصار يأتي بطلّابه ليدرّسهم مادة تصميم الحدائق على أرض الواقع. وفي نهاية الصف، طلب منهم أن يضعوا تصاميماً للمزرعة وتبنّى مع سيزار واحداً منها، لتصير المزرعة على هيئتها اليوم. بعد فترةٍ على إطلاق المشروع ونجاحه، انفصل الشريكان، وسدّد سيزار لصديقه ما دفعه، وصار مشروعه مستقلّاً بالكامل.

اليوم صار بإمكان زوار المزرعة الاستمتاع بتجربةٍ مشابهة للعبة “فارمفيل” التي اشتهرت على فايسبوك. تفتح البوابة الخشبية عند وصولك المزرعة، وما إن تدخل حتى يلفحك هواء منعش. ترى البيت الخشبي المسقوف بالقرميد، وبركة الماء المسيجة مع بيت للبطات الخمس اللواتي يعشن فيها. بجانب البركة موقد اعتاد الشباب أن يجتمعوا حوله في سهرات نار ترفيهية في الليالي، حين تضاء حبال الأضواء لتضفي مزيداً من الدفء على المكان. في الجهة الأخرى، تتجاور البيوت الخشبية في انتظار الزوار. من بداية الرحلة إلى نهايتها سترافقك أصوات الحيوانات التي لا تكتمل المزرعة بدونها. حمار لطيف يحب النعنع يعيش مع حصانين، وبالقرب منهم يتعايش الدجاج والأغنام في الحظيرة نفسها. قبالة خزانات للمياه، ستجد حقولاً للبندورة والخيار والفلفل وغيرها من الخضار الموسميّة. سيّجت الحقول بأزهار دوار الشمس التي تعتني بها تقلا القادمة من عكار، مع سيزار جونيور وهو شاب صغير يتشارك مع سيزار الاسم والقبعة وحُبّ الأرض والبيئة. يعاون الابن أباه، و”يجنّد” من يجد فيه حماسة للعمل في الأرض، ولو كان من الزوار. أما والدة سيزار، إليسار، فتسمح لمن يشاء بالمساعدة في تحضير الفطور الريفي التقليدي، وجمع مكوّناته من المزرعة نفسها.

بعد أن كانت مجرد مساحةٍ مهملة، نجح سيزار في خلق مشروعٍ تنمويّ على أرض جدّه، واستقطب من خلاله أكثر من أربعة آلاف زائر من خمسة وستين بلداً مختلفاً. بفضل حماسه وكفاءته ساعد سيزار في تطوير منطقته وخلق فرص عملٍ لشبابها وسكّانها. بعد ذلك بمدة، انضمت نور مع والدتها لينا التي اشتهرت بأطباقها الشهيّة إلى المشروع، فطوّروا معاً مشروع “شوف سفرتنا”، الذي تصنع فيه ربات البيوت أطباقاً في مطابخهن، تقدّم خصيصاً في بيت الضيافة التابعة لمزرعة سيزار. أما كارمن ولمى، فتبيعان الزبائن المونة البلدية التي تنتجها المزرعة تحت إشراف أخصائية تغذية، وكذلك الصابون والأشغال اليدوية. وفي قرية بريح القريبة من الباروك، استحدث سيزار بيت ضيافة عند صديقة لوالدته، بعد أن قام رفقة فريقٍ من الشبّان بترميم المنزل بمفردهم، ليتاح للزوار التعرّف على بلدةٍ جديدةٍ لم تُتح لهم زيارتها من قبل. وأضاف لبرامج جولات الزوار عدّة محطات في مناطق مختلفة، منها استراحة عند امرأةٍ مسنّةٍ في بلدة بتلون تصنع بيديها مواقد من طين، وتقدّم لزوارها قرعات المتة التي تكتسب طعماً مميّزاً، و”ترويقة” في فرنٍ قديمٍ محافظٍ على وصفاته التقليدية، وغداء صحّياً وطبيعياً عند كوارة، يتبعه زيارة إلى متحف عساف، أو إلى محترف النول، وهو الفن اليدوي الذي أوشك على الاختفاء.

وفي المساء، يختتم النهار بسهرات النار والجلسات الفنيّة التي يحييها في العادة كورال غنائي أو فرقة شبابية.

نجح سيزار، عبر مشروعه الذي بدأ عن طريق الصدفة، في تقديم صورة إيجابية عن منطقةٍ ريفية وبرهنَ إمكانية نهوضها بهمّة أبناءها. وبالرغم من كلّ المصاعب التي تواجه البلاد اليوم، يبدو الشاب مصمّماً على إكمال رحلته.

"فانتاستيك".. إياد

كانت الرحلة من ألمانيا إلى لبنان طويلةً وشاقةً. بعد وصولي البلاد، أمضيت سنواتٍ في التنقّل بين القرى والمدن اللبنانية المختلفة. تعرّفت إلى كثيرٍ من الأفراد والعائلات والناس الذين تركوا آثارهم عليّ وفيّ قبل أن يتركوني. أضعفتني تلك المحطات تدريجيّاً حتّى شُلّت حركتي، فرُميت سنواتٍ تحت سنديانة عتيقة، أتنافس معها مَن منّا سيشيخ قبل الآخر. انتصرَت هي بطبيعة الحال، أما أنا فلم أقوَ على الصمود. ملأني الغبار، وسرّعت العواصف والأمطار من صدأي.

قبل عامين ونصف، صادفني إياد وانتشلني من عزلتي بعيداً عن السنديانة. كان كلّ منّا يسعى لتغييرٍ ما، خاصة أنا الذي اعتدت على التنقل. انعكسَ نشاط وحيوية إياد عليّ، وأعجبتُ بإصراره وعزيمته. ولحسن الحظ، صرت جزءاً من المشروع الذي لطالما خطّط له وتمنى تحقيقه.

وُلد إياد في بلدة معاصر الشوف الجبلية، فاعتادت عيناه جمال أرزها وبرودة الطقس فيها، وانتقلت إليه عادات أهلها، لاسيّما حبّ شبابها لسهرات النار والتخييم والمغامرات. لكن إياد رسم في ذهنه بديلاً أمتن من خيمة وأقلّ كِلفةٍ من منزل خشبي ليقضي فيه الليالي مع الأصدقاء في أيّام البرد، فشرع بالبحث عن فان فولسفاكن قديم ليحوّله إلى مأوى. بعد أن بحث لوقتٍ طويل عثر عليّ أخيراً، لكنّني كنتُ بحالةٍ مزرية. مع ذلك، قرّر الاحتفاظ بي. أخذ قياساتي ورسم خريطة، ثم نقلني إلى جانب بيته. رمّمني إياد بشكلٍ متقن، واستغرق ذلك منه الكثير من الجهد والمال. على امتداد أربعة أشهر عمل منفرداً، مستعيناً بهوايته في النجارة. ففصّل خزانات وأسرّة وطلاها، وغيّر الزجاج المحطّم بآخر ملوّنٍ بالرسوم. عمل على تفاصيلٍ أغنت مساحتي الصغيرة، وأثبت لأهله ولكل من سخر منه أنّ باستطاعته تحويل آلية مهملةٍ إلى مساحةٍ فريدةٍ من نوعها.

هكذا، انبعثت الحياة مجدّداً من حولي. مرّة أخرى، بدأتُ بالتعرّف إلى أصدقاء جُدُد، كانوا كلّهم يتمتعون بصفاتٍ مشتركةٍ ومحدّدة، إذ لم يسمح إياد لأيّ كان بخوض تجربة “فانتاستك” (Vantastic)، وهو – إن لم تنتبهوا – اسمي الجديد الذي أطلقه علَيّ. كثر الزوار، وازدادت الزيارات، ممّا اضطرّنا للانتقال إلى أرضٍ أخرى تتّسع لي ولآليات جديدة فاجأني إياد بضمّها إليّ: خمسٌ منها مرّت بتجربةٍ مشابهةٍ لتجربتي وواحدٌ ما زال بحالة جيّدةٍ ويُستخدم للتنقل، إضافة إلى سيارة بيتل صغيرة، تُغني مشروعنا كمكتبةٍ متنوّعةٍ. أما البيك-أب الذي يحمل بيتاً خشبياً على ظهره، فلم أعرف وظيفته بعد.

على أرض واحدة اجتمعتُ بزملاء وشركاء، بعضهم التقيته يوماً على الطرقات، وبعضهم الآخر هاجر معي في نفس السنة من ألمانيا، حيث كان لمعان طلائنا يبهر الزبائن في معارض السيارات. اليوم، صرنا نشكّل معرضاً أيضاً بوظيفةٍ مختلفة، يمنح قيمة مضافة للمنطقة. لم يكن ذلك ليتحقّق لولا فرديناند بورشيه وإياد أبو عاصي الّذين حفظا مكانتي وأعادا لي رونقي وألقي بعد أربعين عاماً.

قصة: ميرنا يزبك, تصوير فوتوغرافي: إياد أبو عاصي

"فانتاستيك".. إياد

كانت الرحلة من ألمانيا إلى لبنان طويلةً وشاقةً. بعد وصولي البلاد، أمضيت سنواتٍ في التنقّل بين القرى والمدن اللبنانية المختلفة. تعرّفت إلى كثيرٍ من الأفراد والعائلات والناس الذين تركوا آثارهم عليّ وفيّ قبل أن يتركوني. أضعفتني تلك المحطات تدريجيّاً حتّى شُلّت حركتي، فرُميت سنواتٍ تحت سنديانة عتيقة، أتنافس معها مَن منّا سيشيخ قبل الآخر. انتصرَت هي بطبيعة الحال، أما أنا فلم أقوَ على الصمود. ملأني الغبار، وسرّعت العواصف والأمطار من صدأي.

قبل عامين ونصف، صادفني إياد وانتشلني من عزلتي بعيداً عن السنديانة. كان كلّ منّا يسعى لتغييرٍ ما، خاصة أنا الذي اعتدت على التنقل. انعكسَ نشاط وحيوية إياد عليّ، وأعجبتُ بإصراره وعزيمته. ولحسن الحظ، صرت جزءاً من المشروع الذي لطالما خطّط له وتمنى تحقيقه.

وُلد إياد في بلدة معاصر الشوف الجبلية، فاعتادت عيناه جمال أرزها وبرودة الطقس فيها، وانتقلت إليه عادات أهلها، لاسيّما حبّ شبابها لسهرات النار والتخييم والمغامرات. لكن إياد رسم في ذهنه بديلاً أمتن من خيمة وأقلّ كِلفةٍ من منزل خشبي ليقضي فيه الليالي مع الأصدقاء في أيّام البرد، فشرع بالبحث عن فان فولسفاكن قديم ليحوّله إلى مأوى. بعد أن بحث لوقتٍ طويل عثر عليّ أخيراً، لكنّني كنتُ بحالةٍ مزرية. مع ذلك، قرّر الاحتفاظ بي. أخذ قياساتي ورسم خريطة، ثم نقلني إلى جانب بيته. رمّمني إياد بشكلٍ متقن، واستغرق ذلك منه الكثير من الجهد والمال. على امتداد أربعة أشهر عمل منفرداً، مستعيناً بهوايته في النجارة. ففصّل خزانات وأسرّة وطلاها، وغيّر الزجاج المحطّم بآخر ملوّنٍ بالرسوم. عمل على تفاصيلٍ أغنت مساحتي الصغيرة، وأثبت لأهله ولكل من سخر منه أنّ باستطاعته تحويل آلية مهملةٍ إلى مساحةٍ فريدةٍ من نوعها.

هكذا، انبعثت الحياة مجدّداً من حولي. مرّة أخرى، بدأتُ بالتعرّف إلى أصدقاء جُدُد، كانوا كلّهم يتمتعون بصفاتٍ مشتركةٍ ومحدّدة، إذ لم يسمح إياد لأيّ كان بخوض تجربة “فانتاستك” (Vantastic)، وهو – إن لم تنتبهوا – اسمي الجديد الذي أطلقه علَيّ. كثر الزوار، وازدادت الزيارات، ممّا اضطرّنا للانتقال إلى أرضٍ أخرى تتّسع لي ولآليات جديدة فاجأني إياد بضمّها إليّ: خمسٌ منها مرّت بتجربةٍ مشابهةٍ لتجربتي وواحدٌ ما زال بحالة جيّدةٍ ويُستخدم للتنقل، إضافة إلى سيارة بيتل صغيرة، تُغني مشروعنا كمكتبةٍ متنوّعةٍ. أما البيك-أب الذي يحمل بيتاً خشبياً على ظهره، فلم أعرف وظيفته بعد.

على أرض واحدة اجتمعتُ بزملاء وشركاء، بعضهم التقيته يوماً على الطرقات، وبعضهم الآخر هاجر معي في نفس السنة من ألمانيا، حيث كان لمعان طلائنا يبهر الزبائن في معارض السيارات. اليوم، صرنا نشكّل معرضاً أيضاً بوظيفةٍ مختلفة، يمنح قيمة مضافة للمنطقة. لم يكن ذلك ليتحقّق لولا فرديناند بورشيه وإياد أبو عاصي الّذين حفظا مكانتي وأعادا لي رونقي وألقي بعد أربعين عاماً.

على أرض واحدة اجتمعتُ بزملاء وشركاء، بعضهم التقيته يوماً على الطرقات، وبعضهم الآخر هاجر معي في نفس السنة من ألمانيا، حيث كان لمعان طلائنا يبهر الزبائن في معارض السيارات. اليوم، صرنا نشكّل معرضاً أيضاً بوظيفةٍ مختلفة، يمنح قيمة مضافة للمنطقة. لم يكن ذلك ليتحقّق لولا فرديناند بورشيه وإياد أبو عاصي الّذين حفظا مكانتي وأعادا لي رونقي وألقي بعد أربعين عاماً.

قصة: ميرنا يزبك
تصوير فوتوغرافي: إياد أبو عاصي

المتّة.. ركن ضيافة البيت الشوفيّ

تجتمع الجارات في دارها، فتحضّر سامية الضيافة المعهودة التي تستقبلك في أي بيت شوفي تدخله. “منشرب قرعة متي عالسريع”، لكن هذا السريع يمكن أن يدوم لساعتين أو أكثر.
لإعداد المتّة مهارة يجب أن يتقنها كل من يريد تناولها، وهي ليست حكراً على منطقة الشوف، وليست فريضة عند الطائفة الدرزية، لكن قاف القرعة ساعدت على تثبيت هذه الفكرة.
هي العشبة التي تقتل الوقت، كما ترجمها البعض عن الأسبانية، أو الجاربا، العشبة التي استقدمها أهالي الجبل من الباراغوي قديماً، واشتهروا بها حتى اليوم.
تضاف اليها مياه ساخنة في قرعة نقشت عليها رسومات تعبّر عن أفكار وتقاليد مختلفة، وترتشف بواسطة البومبيجا.
أم عماد ترغبها حلوة، وأم غسان تفضلها مرة، أما سارة فتقول إن “أطيب شي بالمتة البوشار”، فلا تقتصر الضيافة على المتة بل مرفقاتها من بوشار وكعك وتمر وبسكويت وراحة وزبيب وكل ما توفّر من بركة البيت الريفي.
تفضل سامية، كما غيرها، المتة لحلوّ جلستها، حيث يجتمع الأحباب ويمرّ الوقت وتعلو الضحكات وتطول الأحاديث والحكايات القروية.
ليست المتة مشروباً ساخناً او جلسة عابرة فحسب، لكنها أسلوب حياة، تعرّفنا إلى عادات موروثة وتقاليد اشتهر بها أهل المنطقة من خلال حكايا تسرد، فيفرغ الإبريق ثم يمتلئ ثم يفرغ.. ومتى مرّ زائر جديد استقبل بـ”أهلا وسهلا، منجددلك المتة؟”.

المتّة.. ركن ضيافة البيت الشوفيّ

هنا، ليست المتة مشروباً ساخناً أو منبهاً، بل جلسة تقليدية وجبت تجربتها على كل زائر أو ضيف، حتى صارت ركن الضيافة في كلّ بيت شوفي تدخل إليه.

تشغيل الفيديو

كوارة.. اول مطعم فيغن في لبنان

نمط الطعام الصحي والنباتي الذي رافق ميسون ووليد، دفعهما إلى ترك الهندسة واللجوء الى مسيرة مهنية مختلفة، فنشأ “كوارة” على أصالة ريفية انتقلت من أجيال سابقة إلى الأبناء..

تصوير: علاء داهوك وميرنا يزبك، مونتاج: ميرنا يزبك

تشغيل الفيديو

كوارة.. اول مطعم فيغن في لبنان

نمط الطعام الصحي والنباتي الذي رافق ميسون ووليد، دفعهما إلى ترك الهندسة واللجوء الى مسيرة مهنية مختلفة، فنشأ “كوارة” على أصالة ريفية انتقلت من أجيال سابقة إلى الأبناء..

منغامر سوا

منذ الصغر، أحب وليد رنيم، ومعها أحب الرسم والطبيعة والمغامرة، وحوّل هواياته وفنّه إلى مشروع يحاكي شغفه ويجذب الزوّار ويؤمن مردوداّ يعيله.

منغامر سوا

منذ الصغر، أحب وليد رنيم، ومعها أحب الرسم والطبيعة والمغامرة، وحوّل هواياته وفنّه إلى مشروع يحاكي شغفه ويجذب الزوّار ويؤمن مردوداّ يعيله.

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

قصة وتصوير فوتوغرافي: ميرنا يزبك
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: روان المقداد
إشراف: إبراهيم شرارة

شارك/ي

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

قصة وتصوير فوتوغرافي: ميرنا يزبك
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: روان المقداد
إشراف: إبراهيم شرارة

منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.

محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد

اتصل/ي بنا

او تواصل/ي معنا عبر البريد الالكتروني

انضم/ي إلينا

تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.

القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.