في العام 1947، تقدّم والد ناصيف بطلب دخول لابنه إلى مصلحة السكّة الحديدية. لم يكن ناصيف مقتنعاً بالقيام بهذه الخطوة، إلّا أنّ أباه العامل في مصلحة سكّة الحديد في طرابلس، أصرّ على أنّ يحاول ابنه العمل هناك. كانت لديه أسباب عدّة، فهو سيضمن من جهةٍ مستقبل ابنه، خاصةً أنّ القطار ومصلحة سكّة الحديد ستفتح العديد من المجالات في البلاد مع الازدهار الّذي ستحققه، ومن جهةٍ أخرى اعتبر أن توريث المهنة لابنه أمرٌ ضروري. على الرّغم من أنّ ناصيف كانت لديه مشاريع أخرى ووظائف أخرى، قبل أن يخوض التجربة على خطّ قطار بيروت – طرابلس.
في أواخر القرن التاسع عشر، وافقت السلطنة العثمانية تحت ضغط المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها على فتح المفاوضات لإنشاء سكّة حديد في بلاد الشام. ضغط الحلفاء باتّجاه البدء بالمشروع الّذي لاقى رواجاً محلياً، خاصة بين التجّار الذين أدركوا الأهميّة الاقتصاديّة لسكّة حديد تربط المدن الكبرى في بلاد الشّام ببعضها البعض. افتتح الخطّ الساحلي (بيروت – الشّام) في العام 1895، وبالتدريح توسّعت السكك حتى وصلت الداخل اللّبناني بالمدن والبلدان المجاورة. أما طرابلس فقد بقيت معزولة وبدأت بالموت اقتصادياً مع موجة النزوح إلى العاصمة بيروت، الّتي بدأت بالازدهار مع وصول سكّة القطار إليها ونموّ مرفأها، ممّا أدى لانفتاحها تجارياً على المناطق المختلفة.
في شهر آذار من العام 1910، صدر عن السلطنة العثمانيّة فرمان بإعطاء امتياز خطّ طرابلس – حمص إلى شركة “ش.ح.ت.” (DHP). بدأ عندها العمل على إنجازه، وفي شهر حزيران من العام التالي بدأ استثماره فعلياً. في تلك الفترة، ظلّت طرابلس معزولةً عن بيروت وعن حيفا حتى العام 1941، عندما اكتملت السكّة. بعد إنجازه استخدم البريطانيون الخطّ لنقل جنودهم من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، وبالتالي انحصر استعماله بالأغراض العسكرية بالإضافة إلى نقل المواشي والبضائع والقمح.
تزامن دخول ناصيف إلى مصلحة سكّة الحديد مع توقّف خطّ الناقورة – حيفا عن العمل على إثر نكبة العام 1948، حين ضرب الإسرائيليون خطّ حيفا. قبل ذلك، عمل ناصيف في أعمال بناء مطار بيروت الدولي، وكان يفضّل البقاء في هذه الوظيفة إلّا أنّ قبوله في مصلحة سكّة الحديد غيّر مساره. دخل إلى المصلحة وهو في عقده الثاني، واضعاً نصب عينيه أن يصير سائق قطار كما كان والده قبله. عمل الأب بدايةً في بلدة رياق البقاعيّة حيث ولد. لاحقاً، ومع نقل مقرّ مصلحة سكّة الحديد إلى طرابلس انتقل مع عائلته للعمل والعيش فيها.
لم يتمكّن ناصيف من أن يقود قطاراً فور انضمامه للمصلحة، إذ كانت وظيفة السائق تتطلّب معرفةً ومهاراتٍ معيّنة. كان عليه أن يبدأ من “مصلحة السواقة” وأن يتدرّج في الوظائف المختلفة حتّى يصل إلى مقعد السائق. شرع بالقيام بأبسط الأعمال وأكثرها روتينية، قبل أن ينتقل إلى مراحل أخرى. ما بدا للآخرين روتيناً يومياً مملاً، بدا بالنسبة له فرصةً لإثبات نفسه وقدراته العمليّة. كان مستودع القاطرات محطته الأولى. هناك كانت تُركن جميع القاطرات بالإضافة إلى القطار نفسه، الذي يسمّيه ناصيف بـ”المكنة”. عمل يومياً، كغيره من العمال، على تجهيز “المكنات” للسفر، إذ كان لكلِّ عامل دورٌ على قاطرة محدّدة، حيث يجب عليه أن يُتمّ تحضيرها للانطلاق خلال ساعتين تقريباً.
كان ناصيف يداوم في الفترة الصباحية، ينجز خلالها المهمات المطلوبة منه. بدءاً من تعبئة المكنات بالمازوت، وتنظيفها من الخارج والداخل منعاً لأن يصدأ الحديد، ثمّ ملْئها بالمياه باستعمال خرطوم موصول بالخزّان الأساسيّ الموجود في المحطّة. بعدها، يضيف الرّمل والفحم ليتمّ إشعاله عند الانطلاق.
آنذاك، كانت الرحلة من طرابلس إلى بيروت تستغرق أكثر من ساعتين، وبالتالي كان على القطارات التي تعمل على البخار أن تتوقّف في عدّة محطات على الخطّ الساحلي، مثل كفرعبيدا وجبيل وجونية، حيث يتمّ تعبئتها بالمياه.
عُرف ناصيف بكونه من العاملين المجدّين، وكان متحمّساً للانتقال من المحطة إلى “ظهر المكنة”، أي للعمل على القطار نفسه. بسبب جديّته واندافعه، انتبه مسؤولو الأقسام لعمله، وهم بحسبه “يملكون نظرةً حول من يستحقّ الصعود والعمل على القطار أثناء الرحلات”. لذلك، وبعد مدّةٍ قصيرة، خطى ناصيف خطوةً إضافيةً في مسيرته نحو تحقيق حلمه.