من عينطورة والمروج وبكفيّا إلى بيروت، على متن رحلات تلتقي فيها العنصريّة والتحرّش والصداقات مع الاكتشافات الأولى وحكايات أيام زمان..
كان دخول الجامعة أوّل تحدٍ لي خارج المنزل. خضعت لامتحان الدخول إلى كليّة الإعلام في العام 2012، وكان عليّ للمرة الأولى أن أتابع بنفسي آليات التسجيل الجامعي. آنذاك، رفضت إجراء امتحان للحصول على رخصة قيادة تمهيداً للحصول على سيّارةٍ لاحقاً، خاصة أنّني كنت أعتمد على شقيقي ووالدتي للوصول إلى جامعتي في منطقة سد البوشرية في بيروت.
لكن بعد مدّة، فُرض عليّ أنّ أجد وسيلة أخرى للانتقال من الجامعة وإليها. وكانت التجربة الأولى في العودة بمفردي من الجامعة، من سد البوشرية إلى الدورة أولاً، ثم إلى المروج. لم تكن لديّ أدنى فكرة حول المسافة التي تفصل بين المنطقتين، وكان سهلاً على سائق الأجرة اكتشاف جهلي المطلق بالطرقات، فأخذ مني ثلاثة أضعاف التعرفة المعتمدة. عندما قال لي السائق أنّنا وصلنا إلى الدورة، نزلت من السيارة وسيطر عليّ غضب شديد، إذ أدركت أنّني دفعت أكثر ممّا ينبغي لرحلة استغرقت بالكاد عشر دقائق. وعندما ركبت البوسطة التي ستأخذني إلى البيت، أحسست بأنّني رسبت في امتحاني الأوّل في النقل العام.
شغّل سائق الباص المحرك وانطلق، لتبدأ أوّل رحلة لي من الدورة إلى المروج بـ”البوسطة الحديد”، التي ترتبط في ذاكرة اللبنانيين ببوسطة عين الرمانة، والتي ينظر إليها باعتبارها لحظة اشتعال الحرب الأهلية. كان قد مرّ شهرٌ على بداية عامي الجامعي الأوّل، وكانت والدتي تدفعني لإيجاد طريقةٍ للتنقل بمفردي. خضعت لذلك مرغمة، ورافقني الغضب لبقية العام. لم أحبّذ ذلك، خاصة أنّ المدة الطول الرحلة قاتل، ساعة ونصف الساعة في رحلةٍ لن تستغرق أكثر من نصف ساعةٍ في السيارة. لحسن حظّي كانت الباصات تمرّ من أمام البيت، ما سهل عليّ الأمر. صار والدي يذكّرني بحكاياته عن السنوات الثلاث التي قضاها بالتنقّل يومياً بين قريتنا ورأس النبع في بيروت ليكمل دراسته الثانوية. وكانت الخلاصة من تلك الحكايات هي أنّ تذمّري لا مبرر له، بل هو مجرّد “دلع”.
بدأت بإيجاد وسيلةٍ للتسليّة تخفّف عنّي عناء رحلاتي اليوميّة المملّة. اخترت في البداية مرافقة زميلاتٍ لي في الجامعة، كنّ يقطنّ في القرى المجاورة لقريتي. كنا مجموعةً الفتيات، نقف عند محطة وقود في منطقة نهر الموت ننتظر قدوم الباص. أذكر أنّنا في أيام الشتاء القاسية، حين كانت شدّة المطر تحجب الرؤية، كنا نحتفل عند اقتراب باصٍ منّا، لتنقلب حماستنا تعاسةً حين نتبيّن أنّه متوجّه إلى الشمال أو بتغرين. كان هناك باصان يمرّان على خط بتغرين، مقابل باصٍ واحد يمرّ على خط المروج، لهذا كنّا ننتظر مروره أحياناً لأكثر من نصف ساعة. نحلم بباصٍ جديد فيه تدفئة بدلاً من البوسطة الحديد، التي كانت رؤيتها تعني أنّنا سنضطر لتحمل البلل وتراقص الهواء البارد بيننا حتّى نصل إلى وجهاتنا.
مع الوقت، تخلّيت عن مرافقة زميلاتي، واخترت الكتب بديلاً عنهن. أبدأ بالقراءة، فأجد أنّ المسافة قد تقلّصت. ولاحقاً دفعتني ضوضاء الطرقات، وضجيج الركاب وصوت هدير الباص للجوء إلى سماعات الأذن. هكذا صرت أقضي الرحلة بين الكتب والموسيقى.
كبرت تجربتي مع النقل العام، وبت أحدّد مواعيدي وفق مواعيد انطلاق الحافلات. صرت أعرف أنّ عليّ مغادرة المنزل قبل ساعة ونصف الساعة من موعدي. أحتاج ساعة أو أكثر قليلاً كي أصل إلى الدورة، ومن هناك أصل في نصف ساعة كحدٍ أقصى إلى أيّ منطقة في بيروت.
يوماَ بعد يوم، صرت أحب التنقّل بالباص، حتى غضضت النظر عن الاستحصال على رخصة قيادة. فضلت استثمار وقت التنقل في القراءة أو الدراسة والاستماع إلى الموسيقى، على الوصول بسرعة. تأقلمي مع النقل العام، دجّن علاقتي ببيروت. صرت أقصد شارع الحمراء بشكلٍ شبه يوميّ، وأعود إلى المنزل مع الباص الأخير، الذي ينطلق من الدورة عند الساعة الثامنة والنصف مساءً.
أصل إلى الدورة عند الثامنة مساءً. في الثامنة وعشر دقائق أسمع صوت زمور الباص الحديد، ثمّ أسمع صوت إطاراته. يصل جو إلى الدورة، ويركن آليته في مكانها المعتاد. أصعد لأجد مكاني في المقعد الثاني، فيما يترجل هو وصديقه لإتمام روتينهم اليومي. قبل خمس دقائق على موعد الإنطلاق، يعود جو إلى مقعده. يشغّل المحرك ثمّ الراديو، وبعدها ننطلق. هذا هو التوقيت الأنسب للعودة إلى المروج، إذ تغيب زحمة السير ويقلّ عدد الركّاب، ليسود الرحلة هدوءٌ ضروري بعد يومٍ طويلٍ خارج البيت.
تكرّر هذا الروتين طوال فترة دراستي الجامعية، من السنة الأولى إلى حين أنهيت أوّل سنة ماجستير. بعدها، خفّت تنقلاتي لقلّة مشاغلي في بيروت، لكنّني، التزمت في زياراتي المتباعدة العودةَ مع جو، ولاحظت أنّ الروتين ما زال على حاله. كان الأغرب بالنسبة إليّ أنّه هو أيضاً لم يتغيّر. في العادة يبدل السائقون مواعيد عملهم ورحلاتهم، لكنّ جو حافظ على جدوله كما هو. يتجنّب الوقوع في مشاكل أو الدخول في عراكات مع غيره، حتّى اطمأنّ الركاب على سلامتهم معه. كغيري من الركّاب، حفظت سلوك وطباع السائقين، وامتلكت القدرة على معرفة كيف ستكون الرحلة بناءً على رؤية من يجلس خلف المقود.
يخلق السباق للحصول على الركّاب لحظات رعب لا تنعكس أبداً على وجه السائقين. على الرغم من قيادتهم بسرعة وتهوّر بين السيارات، ممّا قد يؤدّي إلى وقوع حوادث، إلّا أنّهم لا يبدون أيّ قلق على حياة الركّاب أو راكبي السيارات والباصات الأخرى. على الرغم من هذا الخوف، أفرح أحياناً بسباقاتهم لأنّ ذلك يعني وصولي بشكل أسرع إلى البيت.
عندما يتوتّر الوضع في حالات مماثلة، أرفع صوت الموسيقى لأنفصل عمّا يحدث من حولي ولأخفّف من شدّة توتري.
الركاب هم مرادف الربح للسائق، وغالباً ما يتجادل مع الركّاب على التعرفة، خاصة إذا ما كانوا عمّالاً أجانب. لا يوافق السائق تحت أيّ ظرف على التغاضي عن ألف أو خمسمئة ليرة ناقصة من أجرته. حتّى بعدما ارتفعت الأجرة إلى ثلاثة آلاف ليرة وعلّقت أوراقٌ بالأسعار الجديدة على أبواب كل الباصات، لم تتوقّف المشادات الكلاميّة. يُعامل العمال الأجانب بتمييز واضح. يجلسون في المقاعد الخلفية، ويجبرون على الوقوف في حال صعدت فتاة ولم تجد مقعداً. يمنع على أيّ رجل منهم الجلوس بقرب فتاةٍ لبنانية. تأقلم العمال مع هذه الممارسات، فصاروا يبتعدون عن الفتيات ويتجهون إلى الخلف من تلقاء أنفسهم. يفرض سائقو الباص هذه القواعد انطلاقاً من اعتقادهم بأنّ أمن الفتيات أحد أبرز واجبات الرجال. هذا في الوقت الذي كانت فيه معظم حالات التحرّش التي تعرّضتُ لها في الباص – للمفارَقة – من جانب شبّانٍ ورجالٍ لبنانيين. وهو ما سمعته من فتياتٍ مختلفات تحدّثن عن حوادث متشابهة مع ركّاب محدّدين، حتّى صار الحديث مدعاة للضحك بينّنا.
سيناريو التحرش شبه موحد. في العادة يقفّ المتحرّش في الدورة يرصد الفتيات. حين تصعد إحداهن إلى الباص يهرع للحاق بها. يجلس إمّا بجانبها أو في المقعد الخلفي. يغطّي رأسه بقبعة كنزته وأحياناً يدّعي النوم، ومن ثمّ يحاول مدّ يده خلسةً إلى رجلها أو خصرها. عندما تردعه أو تصرخ في وجهه، يفزع ويطلب إيقاف الباص لينزل، حتى لو لم يكن قد مرّ سوى خمس دقائق على صعوده..
أنظر إلى الرجل العجوز في الصورة المعلّقة على مرآة الباص، وأذكر كيف جزمت من أوّل مرّة رأيتها بأنّها صورة جدّ السائق الشاب، وأكدت الشيبة والتجاعيد هذا الاعتقاد في ذهني. اعتدت تفقّد الصورة في كلّ مرّة أصعد فيها إلى الباص، ورافقتني في رحلاتي شبه اليوميّة طوال الأعوام الثمانية الماضية. على امتداد هذه السنوات تغيّر الكثير على خط النقل المشترك، وكان الرجل في الصورة يراقب هذه التغيّرات: المسافة التي قلّصتها الحرب، والتعرفة التي أنهكت السائقين والركاب، والخلافات التي باتت مادة عمل السائقين، وصولاً لاحتمال إيقاف النقل المشترك بأكمله في حال استسلم أصحاب الباصات لجبروت الانهيار العام في البلاد.
إنّها الساعة الثامنة وعشر دقائق مساءً. يحتفظ الرجل ذو الشعر الأبيض بنظرته المتعَبة في الصورة المعلّقة على مرآة “البوسطة الحديد” المتوقفة في منطقة الدورة. يترجّل جو من مقعد السائق، ويذهب لشراء ساندويتش دجاج وزجاجة كولا. في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة، يشغّل جو المحرك. تنطفئ أضواء “البوسطة” للحظات، ثم تضيء مجدّداً على طول الطريق المؤدّي إلى المروج.
في رحلة تمتد ساعة وربع الساعة، يخيّم الهدوء على الركاب، فيما يلعلع صوت الأغاني الشعبيّة من المذياع. ركّاب الليل ثابتون، قليلاً ما يتبدّلون: معلّمة أرمنيّة، رجل أربعيني يتأبط حقيبةً صغيرة، وعمال سوريون. يختلف روتين جو المسائي عن أجواء بقية السائقين على الخط عينه، وبدوره، يختلف هذا الخط عن غيره من خطوط النقل العام في لبنان.
يبدأ جو رحلته من المروج عند الساعة السابعة صباحاً. يصل قبل موعده بنصف ساعة وينتظر دوره. يكون عدد الركاب في هذا الوقت أكبر منه في أوقات أخرى، فهم في معظمهم طلّاب جامعيون وموظّفون متوّجهون إلى دواماتهم. يتبع جو مساراً واحداً في كلّ “نقلة”: من المروج إلى بكفيّا وصولاً إلى الدورة. بعد رحلة الساعة وربع الساعة، يصل جو إلى نقطة الموقف. يركن “البوسطة”، ويمضي ثلاث ساعات، بين التاسعة صباحاً والثانية عشرة ظهراً، على هاتفه، وأحياناً يمضي لمقابلة أحد معارفه. في الثانية عشرة ظهراً يحين موعد “النقلة” الثانية: ساعة وثلث الساعة من الدورة الى المروج، تتخلّلها استراحة لعشر دقائق في أنطلياس. أما النقلة الأخيرة، فتكون عند الثامنة والنصف مساءً من موقف الدورة ليصل عند التاسعة إلى أنطلياس.
يلتزم جو التوقيت المعتمد على خطيّ النقل المشترك في المتن، وهما خطان اعتُمدا منذ العام 1990. يتبع الخط الأول مسار المروج، بكفيّا، وصولاً إلى الدورة. أما الخط الثاني فيتبع مسار بتغرين، بكفيّا، الدورة. تعرفة الرحلة على الخط الأول أعلى منها على الخطّ الثاني لأنّ طريقها أطول مسافة. لكن بينما ينطلق باصٌ كلّ عشر دقائق على الخط الثاني، لا يمرّ سوى باص واحد على الخط الأوّل المؤدّي إلى المروج.
بدأت عملية تنظيم سير الباصات في العام 1998، مع تعيين ميشال المر – وزير الداخلية آنذاك – لجنةً لتنظيم عمل السائقين وإبقاء هذا الخط بعيداً عن حافلات النقل العام التابعة للدولة. كانت مهمة اللجنة مراقبة عمل السائقين، خصوصاً ما يتعلّق بتنظيم المواعيد وأوقات الانطلاق والوصول، وتوجيه إنذارات للمخالفين. وفي حال حصل أحدهم على ثلاثة إنذارات يتم إيقافه عن العمل. تفكّكت اللجنة مع الوقت، لكن آليات العمل بقيت سارية. تم تحديد نقطتي انطلاق من المروج والدورة، وكذلك مواعيد عمل الباصات. ويدفع كلّ صاحب آلية خمسة آلاف ليرةٍ يوميّاً بدل موقف، إضافةً إلى ضريبة تصل إلى ستين ألف ليرةٍ تدفع للبلديّة شهريّاً.
في صغره لطالما سمع جو والده يردّد عبارة: “الدني دولاب، ونحنا عم نسوق دولاب”. أراد الأب أن يكمل الابن دراسته لعلّه يحصل على عملٍ في مجال مربح ومضمون، لكن جو لم يحب المدرسة، بل كان يرى العالم في “البوسطة” التي اعتاد منذ صغره أن يجلس خلف مقودها حين تكون مركونة، ليحلم باليوم الذي سيصير فيه سائقاً. عندما كبر قليلاً وصارح والده برغبته بالعمل كسائق، لم يحاول الأب منعه، لكنّه نصحه بإيجاد مهنةٍ أخرى.
بدأ والد جو بالعمل كسائق باص في الستينيات، واستمر في مهنته خمسةً وخمسين عاماً. آنذاك، كان والد جو يقود واحداً من أربعة باصات تنطلق من عينطورة إلى ساحة البرج على دفعتين، الأولى في الصباح والثانية في المساء، وبين الدفعتين يقلّ ركاباً على الخط البحري. بعد إندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 توقف هذا الخط عن العمل، فانتقل للعمل كسائق لطلاب مدرسة الشانفيل، وبعدها مدرسة الجمهور، ومنها إلى الكفاءات في الفنار.
في الرابعة عشر من عمره تسجّل جو في اختصاص الكهروميكانيكا في مدرسة الكفاءات، لكنّه لم يلتزم دراسته وتغيب كثيراً عن صفوفه. لم يجد والده وسيلة أفضل من الباص لدفعه لإكمال دراسته، فعرض عليه تعليمه القيادة خلال “التوصيلة” من وإلى المدرسة. بدأ بتعليمه الأساسيّات، وبعد سنة ونصف سمح له بأن يقود لمسافاتٍ محدّدة، صارت تطول يوماً بعد يوم، مع إجادة جو للمهمة.
لم تتغيّر مشاعر جو ناحية المدرسة لكنه التزم بالدوام. أحب الذهاب إليها ليتمكّن من قيادة الباص. يجلس خلف المقود، ويتفاخر أمام زملائه. خلال فترة دراسته، مرض والده ولم يعد قادراً على مواصلة عمله كما في السابق، لذا بدأ جو بالعمل معه. سمح له ذلك بالتخفّف تدريجياً من التزاماته الدراسية، لكنّه لم يتوقّف نهائياً عن الدراسة، فخضع للامتحانات الرسميّة ونجح. بعد فترة، اشترت المدرسة باصاتها الخاصة، فلم يعد أمام جو ووالده سوى الانتقال للعمل على الخط العام.
بعد وفاة والده، استلم جو العمل على الخط بشكل كامل. كالعديد من السائقين العموميين عمل لفترة من دون رخصة. وعندما بلغ الحادية والعشرين، السن القانوني للحصول على رخصة قيادة، تقدّم بطلبه. خضع بعدها لأربعة امتحانات إلزامية، الأوّل هو امتحان ترخيص خصوصي، تلاه امتحان للحصول على رخصة لقيادة السيارات العموميّة، وبعد عشرة أيّام خضع لامتحان قيادة الشاحنات. بعدها بعدّة أشهر خضع جو للامتحان الأخير في قيادة الباصات، ليصير بعد اجتيازه بنجاح سائقاً “نظامياً”.
يقود جو “بوسطة الحديد”، التي ترتبط في ذاكرة اللبنانيين ببوسطة عين الرمانة، والتي ينظر إليها باعتبارها لحظة اشتعال الحرب الأهلية. يصعب اليوم إيجاد هذا النوع من الآليات على الطرقات في لبنان، باستثناء طرقات منطقة المتن الشمالي. طلى جو بوسطته المخطّطة باللونين الأبيض والأحمر، وزيّنها بأشرطةٍ ملونة، ووضع لها زمورها الخاص. صحيح أنّها غير مكيّفة ومقاعدها قاسية، لكنها تتسع لاثنين وثلاثين راكباً. يرفض جو استبدال حافلته بأخرى حديثة، فهذه البوسطة مميّزة بالنسبة له، وطلّتها مختلفة.
في بعض الأحيان، تلتقي قبيل موقف بكفيا حافلتان، واحدةٌ من خط المروج وأخرى من خط بتغرين. عندها يتحضّر الركاب لسباق اعتادوا أن يشهدوه، فهذا اللقاء يعني تخلّف أحد السائقين عن التزامه بتوقيته. في مواقف كهذه يبدأ السائقون القيادة بسرعة، وأحياناً تتصادم الآليتان. يصرخ الركاب على السائق خوفاً، ويصرخ السائق بالركّاب محاولاً تهدئتهم، فيما يحاول عبر الهاتف منع التصعيد، لكنّ السباق يستمر. يقابل السائقان زحمة سير، فيسلكان الخط المقابل ويسيران عكس السير بغية الوصول أولاً. أحياناً يمكن أن يترجل أحدهما للاعتداء على الآخر، وأحياناً أخرى قد يستعينان بعصيٍ يبقيانها بجانب المقعد.. ولا شيء يهدّئ المتسابقين سوى الوصول إلى خط النهاية في الدورة.
يعترف جو بأنّه كغيره من زملائه، يفقد رشده عند وقوع شجارٍ من هذا النوع. أمّا الركّاب فتختلف ردّات فعلهم إزاء ذلك، بعضهم يترك الحافلة ويمتنع عن الصعود مجدداً، وبعضهم الآخر لا يولي الأمر أهميّة لاعتياده هذا النوع من المشاكل.
اليوم، يتجنّب جو المشاكل مع غيره، فقد خاض في السابق معارك كبيرة وضع من خلالها حدوداً لزملائه. على الرغم من ذلك أدّت الخلافات بين السائقين إلى تضاؤل عدد الركاب مع الوقت، وأسهمت في ذلك أيضاً حوادث التحرش التي تتعرض لها الفتيات من بعض الركّاب وأحياناً من السائقين أنفسهم.
بدأت نسبة من يستقلّون الباص بالانخفاض منذ ثلاث سنوات، واليوم لم يتبقّ سوى عشرة بالمئة من الركاب. وهذه النسبة تراجعت أكثر فأكثر بعد الإقفال الذي فرضه انتشار فيروس كورونا.
دفعت هذه الظروف بجو إلى التفكير بالتوقّف عن العمل. لا يعرف إن كان سيأخذ قراره اليوم أو غداً، لكنّه لم يعد قادراً على تحمّل الخسارة، والحل الوحيد هو أن يطفئ المحرك ويعود إلى المنزل.
مع مرور السنوات تراجع مدخول جو من العمل. صحيحٌ أنّه لا توجد نسبة ربحٍ ثابتةٍ في هذه المهنة، إلّا أنّه اليوم بات يخسر، إذ لا يتبقى له مع انتهاء نهاره سوى أربعين ألف ليرة. أما قبل عام فكان يبقى له ما بين المئة والمئة وخمسين ألف ليرة، وقبل خمسة أعوام كان يبقى له ما بين مئتين ومئتين وخمسين ألف ليرة. وبهذا يكون ربحه قد انخفض أكثر من خمس مرّات.
أما تعرفة الـ 25 قرشاً التي كانت محددة عند انطلاق النقل المشترك على هذا الخط، فقد ارتفعت إلى 500 ليرة بعد تثبيت سعر الصرف في التسعينيات. ومع قدوم الألفية واصلت الارتفاع حتّى 1500 ليرة. أما في السنوات الأخيرة، فصارت تكلفة الرحلة 2500 ليرة، لتصل بعد رفع إجراءات الحجر في حزيران الماضي إلى 3000 آلاف ليرة.
توقف عمل الباصات خلال فترة الحجر الصحّي، وبعد أن كان من المفترض التعويض على العاملين في المهنة، اتخذ قرار بمنح السائقين، مع استثناء مالكي الشاحنات، مبلغ أربعمئة ألف ليرة لمرةٍ واحدة.
وصلت نيشا إلى لبنان قبل سبعة أعوام. لم تكن تعرف أيّ شخصٍ هنا، ولم تكن تعرف لغة البلاد. الأمر الوحيد الذي كانت تعرفه هو معاناة الفتيات الإثيوبيات من الظلم والعنصرية في هذا البلد.
يوم الأحد هو يوم عطلتها الوحيد. تخلع عنها زيّ العمل الزهري المفروض عليها، وتسرّح شعرها وتتبرّج، ثم تمضي وحيدةً من بكفيّا إلى منطقة برج حمّود، حيث تمضي نهارها في التجوال والتبضع. اعتادت نيشا هذا الروتين، لكن وفي أحد الأيام، وبينما كانت في البوسطة، حدثٌ ما كسر عزلتها.
في العادة، تسير نيشا قرابة عشر دقائق من المنزل إلى الطريق العام. تقف متململةً في انتظار البوسطة. عندما تصل، تصعد وتبحث عن مقعدٍ فارغ، متفادية أي احتكاك مع السائق أو الركّاب. تفضّل نيشا أن تمضي رحلتها وحيدة، فهي تشعر بالحذر والنفور من اللبنانيين بسبب معاملتهم الفوقية لها.
بعد عامٍ ونصف تقريباً على وصولها إلى لبنان، وفي طريق عودتها إلى بكفيا، جلست إلى جانبها فتاة. تبادلتا النظرات وابتسمتا، أحسّتا بآمان كانتا قد افتقدتاه منذ وصولهما إلى هذا البلد. تحدّثتا بشكلٍ عفوي فهما يفهمان اللغة نفسها. تكلّمتا بصوتٍ مرتفع من دون أن تأبها لبقية الركاب. علمت نيشا أنّها وصديقتها الجديدة سالامويت، تعملان في المنطقة نفسها. تبادلتا أرقام هواتفهما وبدأت الصداقة بينهما.
مع اشتداد الأزمة الاقتصادية مؤخراً في لبنان، قرّرت الصديقتان العودة إلى موطنهما، فأصحاب المنزلين حيث تعملان، لم يعودوا قادرين على دفع راتبهما بالدولار. على الرغم من ذلك لا تخفي نيشا فرحها بعودتها إلى أثيوبيا، فهي على الأقل ستعود مع صديقةٍ جديدةٍ من لبنان.
تتنقل نيشا وسالامويت من محلٍ إلى آخر في برج حمود. جاء المشوار هذه المرّة يوم الأربعاء عوضاً عن الأحد، فالظروف كلّها تغيرت. تشتري الفتاتان ثياباً وحاجياتٍ أساسيةٍ استعداداً للعودة إلى وطنهما، لتبدأ عملية البحث عن فرصٍ جديدة ومستقبلٍ رحب.
طلبت المرأة الخمسينية من سائق سيارة الأجرة أن يرفع صوت الراديو. اقتربت قليلاً من المقعد الأمامي لتستمع بشكل أفضل. تتتالى الأرقام من فم المذيع بشكلٍ غير متسلسل. مرّت عدة دقائق على هذه الحال، وأخيراً وصل الرقم الذي تنتظره.
تحقّقت أمنيتها: نجح ابنها الأصغر صلاح في امتحان الشهادة الثانوية العامة الرسمي، ليكون الوحيد الذي أتمّ دراسته بين أشقائه.
لم تستطع الأم أن تخفي فرحتها، وطلبت من السائق إيصالها الى أقرب متجر للحلويات. أخيراً أنهى صلاح مرحلة السنوات الثلاث من حياته التي أمضاها في التنقل يومياً بين قريته المروج وحي رأس النبع في بيروت.
قبل ثلاثة أعوام، خرج صلاح من قاعة امتحانات الشهادة المتوسّطة وأخبر أستاذ الرياضيات بإجاباته في المسابقة، فجزم الأستاذ أنه سيرسب. قبلها بقليل، وعده جاره بإعطاءه مبلغ مئة ليرة لبنانية في حال اجتاز البريفيه (الشهادة المتوسّطة)، إذ كان ابن الجارِ منهمكاً بدراسته، بينما قضى صلاح فترة التحضير باللعب واللهو. بعد مدّة، صدرت النتائج، ليتبين أن صلاح وزميلةٌ له من ضهور الشوير نجحا، فيما رسب بقية الطلاب. وبهذا كسب الشرط، وحاز على خمسين ليرة فقط من المبلغ الموعود، ثم بدأ بالبحث عن مدرسةٍ ثانوية.
كانت فكرة الانتقال إلى بيروت ثقيلةً بالنسبة لأهالي قرى المتن الشمالي، فكان كلّ من يجاهر بالانتقال إليها يعرّض نفسه للسخرية. آنذاك، كان التعليم ترفاً. من يتبّع المنهج الفرنسي يستطيع أن يواصل دراسته حتّى التخرج، أما طلّاب المنهج الإنكليزي فعادةً ما يتوقّف تحصيلهم العملي عند الشهادة الرسمية المتوسطة، إذ كان من الصعب إيجاد مدرسة ثانوية تتبع المنهج الإنكليزي.
في رحلة البحث عن مدرسة مناسبة اكتشف صلاح أنّ كلّ المؤسّسات في المتن الشمالي تتبع المنهج الفرنسي. اضطره ذلك لتوسيع نطاق بحثه، ليصل في النهاية إلى بيروت، وتحديداً إلى ثانوية رمل الظريف التي كانت أقرب الثانويات إليه حينئذٍ. لم تعنِ المسافة شيئاً لصلاح، وأصّر على إكمال دراسته، ورافقه في هذه المرحلة زميل له من قرية مجاورة.
كانت مشقّة الطريق تفصيلاً ثانوياً بالنسبة للشاب الطموح والمتحمّس للانخراط في العمل السياسي. بين عامي 1971 و1974، سينتقل الشاب يومياً من وإلى بيروت، لا للدراسة فقط، بل وللمشاركة في التظاهرات الطلّابية أيضاً.
يصل صلاح إلى البوسطة المتوقّفة في ساحة المروج عند السادسة من كل صبّاح. يدفع للسائق ربع ليرة ليأخذه إلى ساحة البرج عن طريق بكفيّا خلال أربعين دقيقة. الطريق ضيقة ولا تتسع لخطين، مع ذلك لا تعكّر مسار البوسطة أيّ زحمة سير لقلّة السيارات. أصحاب السيارات الخاصة معروفون بالأسماء، ويمكن تعدادهم على أصابع اليد الواحدة، أشهرهم طبيب القرية الذي يأتي مرة واحدة في الأسبوع إلى عيادته في بولونيا، ليعود بعدها إلى عمله في الجميزة.
تغطّي الأحراج مساحات واسعة من المنطقة الممتدة بين بكفيا وأنطلياس، لذا من النادر أن ينضمّ إلى ركاب البوسطة ركّاب جدد على الطريق، بل يصعد معظمهم من ساحات القرى الواقعة بين عينطورة وبكفيا، ومن أنطلياس والدورّة على الخط الساحلي، قبل الوصول إلى ساحة البرج.
لا يبالي ابن الخمسة عشر عاماً بالبرد والهواء على طول الطريق. تحوّلت هذه الرحلة إلى روتينٍ بالنسبة له. يمرّر الوقت في الأحاديث العابرة، وتناول الوجبات الخفيفة، وأحياناً بالنوم. عند وصوله إلى ساحة البرج يترجّل من الحافلة، ويمشي إلى مدرسته الواقعة في منطقة رأس النبع. في طريق العودة، يتسلّل الملل إليه. بعد يومٍ طويل لا يكون يرغب في شيءٍ فيه سوى الوصول إلى البيت باكراً.
لا تستغرق المسافة بين المروج وبيروت المدّة نفسها دائماً. أحياناً، عندما يصل السائق باكراً إلى محطّته ينتظر دوره في الساحة. بالنسبة لصلاح كان سيمون هو سائقه المفضّل، رجلٌ تجاوز الخمسين وما زال يتحدّث بصوتٍ مرتفعٍ ويقود بوسطته الحديد بسرعة.
مع انتهاء العام الدراسي، يأخذ صلاح عطلة من رحلاته اليومية. يمضي أيامه في قريته، بين لعب الكرة الطائرة والقراءة والعمل السياسي. في الصيف تزدحم القرية بزوارها، مع مجيء القاطنين في برج حمّود إلى الجبل صباحاً، ومن ثمّ عودتهم إلى مساكنهم ليلاً. نشّط “روتين الأرمن” اليوميّ هذا حركة الباصات، من دون أن يغيّر في جدول المواعيد المعتمد.
على المقلب الآخر، في ساحة البرج في بيروت وبالقرب من تمثال الشهداء، ينظم مكتبان خاصة عمل باصات المتن الشمالي. الأوّل هو مكتب الأرز لصاحبه ألبير الخراط، وهو المسؤول عن عمل باصات المروج. أمّا الثاني، فهو مكتب الغزال وصاحبه من آل المرّ، وهو يشغّل الآليات التي تعمل على خط بتغرين. لا يتجاوز عدد الرحلات الخمسة يومياً، اثنتين في الصباح ومثلهما في المساء، إضافةً إلى رحلة في فترة الظهر. يتوجّب على الراغبين في استقلال البوسطة حجز مقعدٍ والحصول على بطاقة كتب عليها موعد الانطلاق. دائماً ما تكون الباصات ممتلئة، أما الواصلون باكراً إلى البوسطة، فيقومون بتمرير الوقت في أسواق البلد بانتظار موعد الانطلاق.
لم تكن هناك مكاتب مماثلة في المروج. لكن، وخلال أشهر الصيف، كانوا يضعون طاولة قرب كنيسة مار تقلا في ساحة البلدة ليعطوا بطاقات للركاب. لم تحتج القرية إلى مكتب، فالركّاب محدودون، يعرفهم السائق ويعرف مواعيدهم بحسب أعمالهم. فيما يتغيّر الوضع على الخط الساحلي، حيث يشرف معاون السائق على عملية صعود ونزول الركاب.
كان التوتّر العام يزداد في البلاد في تلك الفترة، وتصاعد الحديث عن حرب أهليةٍ وشيكة. كان هذا الوضع ينعكس بشكلٍ أساسي على المدارس. أحياناً كان صلاح يصل إلى الثانوية وينتظر مع زملاءه أن يصدر قرار رابطة الطلّاب حول إمكان التظاهر من عدمه، قبل دقائق قليلة على بدءِ الدوام المدرسي. حين يأتي قرار التظاهر، تتوقّف الدروس، ويخرج صلاح مع رفاقه ليلتحقوا بالمظاهرات الطلّابيّة.
كانت مطالبهم محدّدة آنذاك: إنشاء كليات تطبيقية في الجامعة اللبنانية.
كان هذا المطلب يمسّ صلاح وغيره من الطلاب بشكلٍ مباشر، إذ كان سيسمح لهم بعد تخرجهم من المدرسة بالالتحاق باختصاصات الطب والهندسة، بدل أن تظّل حكراً على أغنياء الجامعات الخاصة. لم تتوقّف حماسة صلاح عند الحراك الطلابي، بل امتدت إلى تأييده وانتماءه إلى الثورة الفلسطينية. وهي حماسة وإن كانت قد بدأت قبل رحلات صلاح اليومية إلى المدرسة في بيروت، إلّا أنّها لم تكن لتترجم بالفعل لولا البوسطة، وسيلته الوحيدة للتنقل بحريّة بين قريته والمدينة.
في أحد الأيام، أقامت الحركة الوطنية تظاهرة طيّارة، دعماً لمزارعي التبغ في الجنوب. لم يتوانَ ابن الرابعة عشرة عن المشاركة فيها، رغم علمه المسبق بأنّه سيتعرض للضرب أو الاعتقال. مع طلوع الشمس، توجّه إلى ساحة قريته وصعد إلى البوسطة برفقة مجموعةٍ من أصدقائه. وصلوا إلى ساحة البرج ومن هناك اتّجهوا إلى موقع المظاهرة في كورنيش المزرعة. فرح صلاح بترؤس كمال جنبلاط للمسيرة، وشارك فيها رغم الإصابة في قدمه. أمّا توقّعات الفتى المسبقة عن مخاطر التظاهرة فتبددت لحظة هطول المطر أثناء هروبهم من القوى الامنية. كان ذلك أقصى ما حدث، ليعود بعدها ليستقل آخر بوسطة متّجهة من ساحة البرج إلى قريته.
كتابة: غادة حدّاد
رسم: آية دبس
فيديو: جاد ترك
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تصميم: إبراهيم شرارة
تحرير: صباح جلول، رضا حريري
تطوير: جعفر شرارة، روان حوري
ترجمة إلى الانكليزية: صباح جلول
إشراف: إبرهيم شرارة
منصة إعلامية تهدف إلى تعزيز استخدام مهارات السرد القصصي الرقمي في الانتاج الصحافي. القصص المنشورة في المنصة من انتاج صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب من جميع المناطق اللبنانية، تم تدريبهم/ن وتوجيههم/ن من قبل فريق StoryLeb.
يندرج StoryLeb ضمن مشروع Shabab Live وينفذ بالشراكة مع أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademie) ومنظّمتي “الجنى” و”الخط”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي ودعم من وزارة الخارجية الألمانية.
محرر تنفيذي: إبراهيم شرارة
وسائط متعددة: فرات شهال الركابي
تحرير: رضا حريري، صباح جلول
تطوير تقني: جعفر شرارة، روان الحوري ابو النصر
تصميم: إبراهيم شرارة
الترجمة إلى الإنكليزية: صباح جلول، روان المقداد
تم إطلاق هذه المنصة بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. محتوى هذه المنصة هو مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره يعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.
القصص المنشورة في StoryLeb من اختيار صحافيين/ات وصانعي/ات محتوى شباب، شاركوا/ن في الدورة التدريبية الأولى للمشروع.
تم انتاج القصص بمساعدة مالية من المفوضية الأوروبية في إطار مشروع شباب لايف (Shabab Live)، وهو مشروع مشترك بين “أكاديمية دويتشه فيله” و”مركز الموارد العربي للفنون الشعبية” و”الخط”. القصة هي من مسؤولية StoryLeb وحده ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تعكس موقف المفوضية الأوروبية أو شركاء المشروع.